التصنيفات
قصص

أيام: 28 ربيع ثاني

 

 

اللحظة الأولى من اليقظة، لما تشوف كل شي غبشي وضبابي ومغمص، صدقني هي أصدق اللحظات تعبيرا عن الواقع .. حلّمت ان تيرنس ماليك يصوّر فيلم المرآة لتاركوفيسكي .. بودريار قبل النوم خطير .. تبلد خامل ومغري، رغبة صباحية اعتيادية بالتفكير المسترخي اللامجدي اللي ما يودي لأي شي. تُواصل الانسداح، مدفون تحت الأغطية، شعور عميق بالأمان، ولو ركزت شوي، بس شوي، راح تحس بالأرض، تدور، ببطء شديد جدا .. يعني صحيح؟ الواقع مفهوم افتراضي وحالة عقلية؟ لا وجود لفيلم وثائقي، لا وجود لكتَاب غير متخيَّل، لا وجود لصحافة، لا وجود لتاريخ، لا وجود لحقائق. كل الموجود: انتقاءات، بؤرة رؤية محددة. لمّا يأخذ جوناس ميكاس كاميرته، ويصور طوال ثلاثين سنة حياته الخاصة، ويزعم أنه أول من أصّل لمبدأ الدوغما، تفكيك الفن السينمائي من شوائب التخييل قدر الإمكان: فهو في الحقيقة كذاب! لأنه ينتقي المشاهد اللي يمر بها، حتى وإن كان بدون قصد، يظل الشيء المصوَّر هو نتيجة وجوده في هالمكان وتوجيه بؤرة كاميرته إلى تلك الصورة. لمّا يكتب هوبزباوم التاريخ، فهو أيضا، وبدون قصد أيضا: كذاب، لأنه لا يمتلك حقائق كل ما حدث، وإنما انتقاءات من سبقوه وانتقاءات عجزه عن أن يقرأ كل شي كُتب. العالم شاسع جدا، لانهائي بالقياس على بؤرة التلقي الإنساني المحدود .. المكان هنا مجوف، فراغ لامرئي محفور في وسطه. نصف الشمس التحتي غرقان في غيم الفجر الأزرق، الصُفرة الرقيقة الغبشية، تدخل من فراغات الجدار، حبال مشدودة، ثم تنتشر مثل نقطة حبر على قماش، صافية كريستالية مذهّبة، ومعلبة. أصحى كثير في مثل هالوقت. النقاء الحاد للأجواء والهواء والروائح، كل شي مفلتر، مُـنتقى، محدَّد. مُمرِض بلذة. الرهافة الشفافة اللي تحسسك أن اللي تشوفه ليس هو الواقع، وأن قشرة نحيفة يمكن تتفتت فجأة وترميك في واقع آخر لا يمت بصلة للصورة اللي كنت فيها، المشهد سيتفكك قطعة قطعة مثل لوحة انطباعية ويكشف نهار ظهيرة حار في صحراء كبيرة.. عموما لكل لحظات الخمول الفَجرية نهاية تثقل فيها وتنصهر .. أقوم، أتحرك، أغسل، ألبس .. بودريار يشوف أن الواقع مبطّن بالهايبرريالتي والسيمولكرا، الواقع اللامحاكى، الصورة الحادثة حاليا بدون أن يكون لها مرجع واقعي. ديزني لاند، دبي، لاس فيجاس، أمكنة حقيقية، لكنها بلا أصل، مختلَـقة. الإنترنت. وسائل الدعاية والإعلان المخادعة. الترويج لمفاهيم لامحسوسة لا وجود لها. لمّا استقال نيكسون استقالة شبه إجبارية بعد حادثة ووتر جيت، كان من شأن هذا الفعل أن يبث طمأنينة توحي أن “السيستم” يعمل بشكل صحيح، وأن الديموقراطية تؤتي بثمارها، ولكن هذي الصورة: سيمولكرا، لا تمت للواقع بأي شكل ولكنها “تُصنَّع” لتقدم على أنها صورة واقعية ..

صداع. أو خفة متطرفة في الدماغ. في راسك فراغات، تحس بالهواء ينبض فيها.

السيب اللي برى الشقة مخنوق برائحة إهمال ولامبالاة عزّابية. كل شي مزجى إلى منحى زمني آخر. العمارة – اللي أنا ساكن في دورها الثاني – تحوي ٤ شقق في كل دور. كنت ساكن قبل سنوات أول ما جيت للرياض في عمارة مخصصة للعوائل، بحجة ان أمي تزورني كل آخر اسبوع، إلى أن اكتشف واحد من الجيران الحشريٍّين كذبتي وانطردت. هذي هي الكلمة المناسبة لما حدث. كنت بزر، أبو اثنين وعشرين سنة. ولكن قبل هالشي، قبل ما أنطرد، سكن بجانب شقتي زوجان متزوجان حديثا. في الليلة الثالثة لانتقالهما، وبسبب أرق ابن كلب، جلست الساعة ٢ الليل أستكمل قراءة رواية موديانو “شارع الحوانيت المعتمة”.

IMG_3609

ضوء الأبجورة الأصفر الشاحب لطخة مركزية بؤرية على محيط الطاولة. في المكان ارتخاء بليد، عتيق ورث. موديانو يملك نبرة كتابة شبحية شديدة الخصوصية، كل شي يخليك تحس بنوع من التلصص، الظلالية، الهامش، لطخات الضوء الشاحبة، الغشاوة الحلمية الموحشة اللي تصبغ الأماكن المهجورة، قشرة العتمة الشفافة على الفراغات المهملة بين الأثاث. هو يشبه الوصف اللي أطلقه أحدهم على الألماني سيبالد “وكأنه يتحدث من وراء قبر”. كنت وصلت للمقطع الغريب القشعريري لما وصل البطل في تحقيقاته إلى رجل في شقة، وسط الظلام، يعطيه سماعة تليفون، يطلب رقم، وأثناء الفواصل الفحيحية الموحشة بين الرنين المتقطع: تطلع أصوات، أصوات غريبة، تُسحب من غور بُعد سحيق، وكأنهم يهمسون من وراء قبورهم. كان مشهد موحش! في نفس الوقت تقريبا، وبصدفة هائلة، سمعت صوت آهة مكتومة، آهة أنثوية، تُسحب من مكان بعيد ومكمم. إقشعرّ جلدي، الصوت وكأنه موجّه خصيصا لي. قمت بتردد، طلعت من لطخة الضوء المركزية إلى الجدار المعتم، التصقت به وسمعت الآهة مرة ثانية، ناعمة، مبحوحة، مستثارة، مسحوبة من مكان يبدو وكأنه غير موجود، مكان لذّات خرافية، فيها سحر يكاد يكون ماورائي. سمعتها ثالثة، ورابعة، ثم انقطعت. نمت متأخر ذيك الليلة، جلست في لطخة الضوء الأبجورية الصفراء، أقرا وأفكر وأحدق في الفراغ المعتم. شي غامض، حاد ورقيق، عدائي وحنون ينحت في مكان داخل جسمي. كنت بزر للحين. كل ليلة صرت أجلس أقرأ موديانو، وأنتظر الآهة. أحيانا تأتي وأحيانا لا. أصادفهما مرات في السيب، عاديين، ما يبدو عليهما أي علامات خصوصية مميزة، ما يمتّان بصلة لعمق وغموض وشبحية تلك الآهة. إذن الإنسان فعلاً أعمق وأكثر إثارة للانتباه وهو في خلوته منه في خارجها! لما طالبني مكتب العقار بترك الشقة، كان أكثر شي أزعجني هو انتزاعي من ذلك الصوت الشبحي، الحشرجة الحلقية للذة مكبوحة تبدو وكأنها موجّهة خصيصا لي. أحيانا أتخيلها وأبتسم زي الأحمق، وأنا شارد وسط زحام أو خمول أو كآبة. للحين ما نسيتها بعد كل هالسنين.

من آخر حي الصحافة، إلى شارع التخصصي. الساعة ٧ صباحا. المباني المتقزمة على دفتي شارع أنس بن مالك، بلوحات المحلات المتلاصقة، صف الأحجار الصغيرة. كل شي يصحى ببطء مشاكس، مثل بزر ما يبي يروح للمدرسة لكن يبي يصحى وينزل يشوف التلفزيون مع أمه. الإسفلت يلمع في انعكاس الشمس، بساط ضوء. في كل صباح، أحس اني أشمّ رائحة  الهواء على حقيقته في فرط نقائه، بعد ليل كامل من السكون والخمول وهو متروك في حاله. شي معقم وسلبي لكن حلو ولطيف. الجميع للآن برّى أجسادهم، يصلون بشكل متقطع، غير مكتملين، loading، كل شخص منفصل، يحتل ببطء الصندوق الجسدي المخصص له. أحس بهالحركة الفاترة، بخر الأفواه المتعفنة، تجعدات الوجه المتغضنة، طقوس اليقظة وراء البيوت المغلقة: أوجه تُـغسل، حفيف ملابس تترك الأسرة، طقطقة بيض في مقلاة، انفراج أفواه تتثاوب. ببطء، كل شي ببطء. طبيعة حلمية خاثرة، الكل عالق في سلبية الانطفاء. برج رافال يعكس الصفرة المتزايدة عمقا للشمس، فتدهن صبغة لون ممتقع على امتداد الشارع. ضباب أصفر، ممرض، لذيذ .. إلى الآن أستطعم في فمي وعيني نكهة فيلم البارحة، McCabe and Mrs. Miller. طعم النثار المعتق اللي يكدس الرؤية الغبشية، طعم براري الويسترن الأمريكي السحيقة المغطاة بطبقات الغبار والوحشية. أغنية “الغريب” في مدخل الفيلم، ليونارد كوهين “And while he talks his dreams to sleep, you notice there’s a highway that is curling up like smoke above his shoulder.”

أثر رجعي، حلميّ، منوِّم. ما فيه صور أو أفكار واضحة، مجرد أثر يعتمل انطباعيا في مزاجك وانت تسوق في لحظة خمول أوتوماتيكي، وكأنك موزع على مكانين متوازيين. ثم لسبب ما، أحيانا يكون أدق من أن يتم تحديده: تنفصل عن أحد المكانين، غالبا اللافيزيائي اللي “أنت” لست فيه .. عند الإشارة، وقفَـت بجانبي سيارة جيب، متقدمة على سيارتي شوي. في المرتبة الخلفية أطفال، مشغلين أفلام كرتون في التلفزيون الصغير على ظهر المرتبة الأمامية. البطل، فيما يبدو، كائن نصف إنسان ونصف آلة، يحاول يطير وسط مخلوقات طائرة متوحشة عشان يوصل إلى آخر البرج، وينقذ شي أو ياخذ شي أو أيا كان، الهدف غير واضح. يطير، ويضرب الطائر الأول، ثم الثاني، ثم الثالث. فتحت الإشارة فمشت السيارات ببطء كالعادة، حمّرت الإشارة من جديد فوقف الجيب متقدم أكثر، لكن لازال في مجرى الرؤية. المشهد تغيّر، البطل ملقى على طاولة مشرحة، وطبيب حاد الملامح يشرح وضع الجثة لمحقق متجهم بقبعة سوداء. البطل مات! لكن من خلال الرسم والهيئة، يبدو ان المحقق هو البطل. أو هو الطبيب! من هو البطل؟! فتحت الإشارة فمشت السيارات، واختفى الجيب في الزحمة .. انقباض غريب. فتور ثقيل دبق يطبق علي. وكأن في الزحمة، وفجأة، رطوبة خانقة ممكن تبتلع كل شي .. قبل سنة تقريبا، أعطاني البنك جوال عمل عشان أتواصل مع بعض العملاء المهمين. في لحظة فضوة مستفَزة، قررت أخلق شخص اسمه حسان، توّه راجع من بعثة في أستراليا، يدرس الهندسة، ويحب السينما، وتحديدا باراجونوف. اختيار محدد لأن حسان شخص محدد، له نبرة تعبير فوقية تكاد تكون متعالية. عرفت حسان من أيام الطفولة، لما كنا جيران. طويل، ما هو وسيم أو قبيح، بيت عائلته في حي المصيف، والده يعمل مسؤول في بلدية الرياض، أمه مدرسة علوم، له أختين وأخ، كلهم أصغر منه. لما فتح حسان حساب تويتر ومدونة، وروّجت له شخصيا بحكم علاقتنا القديمة، استقبله الجميع بنوع من الحذر. حسان جريء، لأن انعدام وجودك الفيزيائي يعطيك جرأة تكاد تكون انتحارية، ولذا حسان صار يقول كل الأشياء اللي أتردد في قولها، الأشياء المتحذلقة اللي أظن اني من خلال قولي لها أهدد برستيج معين لي. لكن حسان، ذو النبرة المتعالية والغموض الجذاب، نجح نجاح باهر. الكثير يتابعون حسان، الكثير يقرؤون لحسان، الكثير يثقون في حسان. حسان يكتب كثير عن السينما الغامضة، الأفلام التجريبية، سينما المناطق الهامشية، فلسفة وتنظير اللغة السينمائية. كثير من اللي كنت أعرفهم، وأعتبرهم أصدقاء، كانوا يسألون حسان عن رأيه، وكانوا يتلقونه كنوع من الخبرة اللاقابلة للتشكيك. نادرا ما أتواجد مع حسان في وقت واحد، لكن في مرة من المرات عارضته، نبرته المتعالية نرفزتني. وأنا أتجادل معه، حسيت اني سخيف، لأني كنت أكاد أحس ان الجميع كانوا معه، وان الجميع كانوا ينظرون لي نظرة شك. بعد مدة، تواصلَت مع حسان بنت كانت معنا في منتديات سينماك القديمة، وطلبت رقمه. أعطاها إياه، كلمته، لطيفة جدا، تماما كما تخيَّـلتها، ثم دعته لدخول قروب سينمائي في الوتس أب، 7 شباب وثلاث بنات. في القروب، كان حسان مثل بطل ملحمي، كان يعرف كل شي، كان يفهم كل شي، كان قبلة كل شي. كان يؤرقه صوت البنت أحيانا، حميمي، ناعم، حبّوب، يملا عليه صمت الليالي الباردة. لكنه كان متردد، انعدام وجودك الفيزيائي أيضا يقيدك أحيانا، يعطيك الحق في إنك تتردد. أخيرا، هي اللي بادرته، قابلته في مطعم، بعد ما خططت لكل وسائل الهرب المناسبة في سبيل ليلة جميلة. حالة التلصص صنعت المزيد من الغموض المنتشي للحدث، إحدى قيم هذا المكان السخيفة. وزّعت اللحظات الأولى وهي تحدق فيه. هل توقعت شي مختلف؟ وجه مختلف؟ .. حسان يضغط الأزرار الصحيحة دائما. أوجه مختلفة الملامح، أجساد متنوعة الشكل. عشاءات مليانة بالكلام والأدوار والاقتراحات والتبطين، ليالي صيفية حارة بلزوجة عرق دبق، وكثير من اللحم، اللحم .. بعد مدة، استدعاني مدير البنك، صرخ علي بسبب فاتورة الجوال، “أنت من تكلم يلعن أبوك؟! 600 ريال وعشرين الف رقم؟!” سكت ينتظرني، بينما ظليت في وقوفي مثل طفل تم القبض عليه. قال أخيرا “بتدفعها من راتبك، ولا تقول لأحد اللي صار”. تم سحب الجوال مني. وهكذا اختفى حسان. الكثير يبحثون عنه، أنا أحيانا أبحث عنه.

بواري، فرامل، حفيف هواء. الرياض في الزحمة حالة صوتية مكممة، كل شي يلج مخنوق، بينما الصور خرساء، مفصولة، أشخاص يتكلمون، يومئون، يلتفتون، دلالات بانتوميمية وراء النوافذ المغلقة. بوليفونية الفوضى المتمايزة، مجزأة، متشظية، مصففة، متناقضة. مباني، واجهات، لوحات محلات، متجمهرة على الحافتين وكأنها تراقب السرب الغريب المتناقض المنوم للسيارات هذي. أضحك فجأة، لوحة محل “العامري للرحلات” عند إشارة العروبة على التخصصي. لها وجه، نظرة، ملامح، كاريكتر. كأنها تراقبك! “هاه، وين رايح العطلة الجاية؟” أحاول آخذ الموقف بأقل جدية ممكنة “بنجلاديش ممكن” حوافها الألمونيومية تنكمش وتقطّب “تستهبل؟! قدّر الموقف يا بغل، سنين وأنا معلقة هنا مثل ذبيحة عيد لكل متطفل كلب، شوية احترام” مثل طفل تم القبض عليه أيضا “أنا آسف، نكت صباح رديئة كالعادة. للآن ما قررت، بشوف وأعلمك”. محل نظارات، على جداره صور لأشخاص شقر شاذين جغرافيا يلبسون شمسيات ويمارسون فوقية الشخص الوسيم اللي يستعرض بوجهه حتى وهو مجرد حضور افتراضي هجين. محل ألعاب، يلفظ من حوافه عتمة إغلاق لا تناسب إيحاء لوحته السعيدة الفرحانة الطفولية. محل، محل، محل، محل. حرارة الزحام، الحركة، الأوجه، النوم اللي يحاول أن يمسك أهداب اليقظة، اليقظة اللي تستعد لأن تنقض على كل شي. أحب زحمة الصباح، الحركة المحتقنة لمجموعة رغبات واحتياجات بشرية مندفعة، التواطؤ الأوتوماتيكي بين السيارات اللي تقنن فوضاها وفق قوانين عرفية. في الزحمة شعر حقيقي، لكنه مطموس تحت إحباط الاستعجال وضيق الوقت. جرب اطلع في الزحمة وانت فاضي، بتكتشف جاذبية خصوصية جدا. أوقف عند مطعم الخرطوم. “سندوتشتين كبدة يا زول”، الكتف في الكتف. أعين صمغية، منهكة، لازال فيها أثر حلم لامجدي لامفهوم تمت مقاطعته. ثياب نظيفة، منتقاة بعناية. أوجه ما كوى اعتياد اليقظة تجعدات جلدها إلى الآن. رائحة اللحم المطبوخ، الخضار المقطع، البيض المقلي، تضرب بشويش كل منطقة ظلالية في الداخل، كل انتباه مرتخي وكل عصب ناعس ينشدّ. دوري، آخذ السندوتشتين وأطلع، أوقف على الرصيف، وآكل .. نهر. نهر كل هالحركة السيّالة، يتدفق بأصواته وصوره وروائحه، بفوضويته وتقنينه. مشهد شاسع لانهائي، يتجدد بعنف أكثر في كل مرة تحس انه راح ينتهي. لا أفكار لهروب رومانتيكي، ردات الفعل المفتعلة ضد المدنية، الادعاء اللي يسويه شخص طفشان من الشوارع والمباني والإسفلت والبلوك. أحب الشوارع والمباني والإسفلت والبلوك، أنقبض أكثر من اللي برّاها. حساسية شعرية تجاه الطبيعة، النقاء والانفتاح والهواء المصفّى. أحب الحرارة والاحتقان أكثر، حرارة المباني المتلاصقة، حرارة الأجسام الدبقة، خشونة الهواء المشبع بالحركة والتهافت، روائح الإسفلت والخرسانات والبويات، صور اليومية في المدينة الكبيرة، عواميد النور، لوحات المحلات، كتل المباني المخددة بالشوارع الضيقة الوديانية مثل خنادق عميقة من الإسمنت والزجاج والقار. صفوف الأوجه، لانهائية، متنوعة، محددة بخصوصية لكل وجه لا يتكرر حدوثه أكثر من مرة. الأصوات، ضوضاء الجاز اللي تمتص عزلة كل حوار ثم تُجمهره في معزوفة فوضوية. العيوب اللي تُكسب ضخامة المشهد طابعه البشري، القبح المستفز، المطبات والنتوءات والحفريات، النشاز، العماير المتهالكة، التكشيرات الحقيرة. كل شي يكتسب حيويته من تناقض وتمايز فوضويته وخصوصيته، كل شي يؤدي وظيفة في أوركسترا ارتجالية .. الطبيعة – كنقيض للمدنية – شي يعادل الانطفاء، الخمول، حالة حلم ناعم جذاب لكل شخص يعاني العكس. لكن في كل مرة أطلع فيها إلى بر، أحس اني في حالة خمود تدريجي، في لحظة معينة راح  يطفى السيستم ولا يبقى مني إلا الشعور المجوف المفرغ بالبلادة الجامدة، وأكتشف وقتها قدّ ايش أنا فارغ وخاوي لما أتحرر، لذا مابي أتحرر! العزلة مغرية، كهروب مؤقت، لكنها متطلبة بشكل مزعج، قسرية، أنانية، وفيها فوقية سامجة. من أنت عشان تطالب نفسك إنها تتفرد حصريا لك؟ يا شيخ كل تبن من زينك. النشاز في موضة الشاب المثقف النمطي اللي يرى في الناس عناصر خبيثة من الحركات والزحام والتطفل واللاإثارة للاهتمام. أحب الناس كثير، وأكثر الناس اللي أحبهم هم بالضبط اللي مسببين كل هالحركات والتطفل والزحام والهامشية: الناس اللي ما أعرفهم، الناس اللي يمشون دايم في الشارع، اللي تشوفهم مكدّسين الأماكن، الناس اللي تضايقك في طريق وتكاتفك في محل. الرجل اللي واقف الآن على حافة الرصيف، ينتظر لوموزين. طويل، مشخّص، ثوب أبيض يعكس صفرة الشمس الباردة. اجتماع مهم؟ مقابلة وظيفية؟ ممكن سيارته في ورشة، عزاب أكيد. وَقْـفته فيها ترهل منهَـك، ترهل الشخص المطمئن لفكرة أنه غير مراقب، إن ما فيه أحد قاعد يشوفه ويجبره أن يمثل دور أو يطبق بروتوكول، لذا مسحة الاستنزاف الخائرة – اللامبالية تقريبا – واضحة عليه، ويبدو في غاية الارتياح معها. أرمي باقي السندوتشة، أقترب منه بشويش، بدون خطة واضحة، كالعادة. “الجو اليوم مريض، هاه؟” يلتفت علي، طبقة الوجه الأولى تعيسة بسبب آثار النوم، الطبقة الثانية مستعدة للتغيير في حال وجود شي يستحق التغيير. يتغيّر، شوي، بنوع من الفضول. يهز راسه “صدقت” يسكت، أطراف فمه ترتعش، الرجل ودّه يقول شي، أي شي، بس ما أظن عنده شي يقوله. ستتفاجأ غالبا ان ما عندك شي تقوله لما يبادرك الآخر بملاحظة. لذا نوقف بصمت. وش أقولّه؟ حتى أنا ما أدري. لابدّ انه يفكر: ليه هذا واقف جنبي؟ أتظاهر باني أنتظر لوموزين، الناس تثق فيك أكثر إذا عندك تبرير واضح لكل موقف أنت فيه، يحسسهم بنوع من التواطؤ وانك شخص غير مختلف أو غريب. يحضر اللوموزين، يلزّم علي آخذه، أرفض، يسلّم فيما يبدو ابتسامة امتنان، ربما امتنان للتدريب اللساني والحركي اللي تلقّاه للتو. مهم هذا الشي، التواصل اللي ينتزعك من حالة الانطفاء النومية واليقظة البطيئة. الغرباء يملكون جاذبية اللامعرفة المسبقة، تحررك من مسؤولية الكلام، وتجعل المسألة أوتوماتيكية، مجرد كلام. في أوقات الفراغ والوحدة، أتصل على أرقام عشوائية. لحظة الانتظار، الرنات المتقطعة، قبل ظهور الصوت، هي حالة غريبة من الحماس! وش نوع الصوت اللي راح يرد؟ كيف يرد؟ لهجته؟ حالته؟. أتورط كثير في تبرير موقفي، ستكتشف انه من الصعب جدا انك تفتح ولو نوع من الكلام اللامجدي مع مجرد صوت. باستثناء عجوز حجازية، ردت علي، ولأن ما عندي خطة واضحة كالعادة، قلت “هذا رقم حصة؟” سكتت العجوز شوي، أسمع نفَسها يتردد بخفوت، وكأنها تدرس اتخاذ قرار. اللحظة كان فيها نوع من إثارة غامضة رتيبة. بعد لحظات ردت بثبات “أي نعم”. أنا كنت عارف انها ماهي حصة، وهي عارفة انها ما هي حصة، وأظن أيضا إنها عارفة أن حصة هذي لا وجود لها اصلا. ليه إذاً؟ ممكن الفراغ، ممكن الملل، ممكن مثلي، مجرد كلام. جلسنا نسولف عشر دقايق، أنا وحصة، إدعيت انها خالتي وادعت هي إني أنا ولد أختها. سألتني عن أمي، سألتها عن عيال خالتي. قالت لي لا تقطع كلمني، وصرت أكلمها بين وقت والثاني. أتخيلها أحيانا لمّا أحس بكآبة ووحدة، صارت مثل الرمز التطهيري: وجه مجعد مجرح مثل أخاديد رملية، عين رطبة محمرة، فم يابس مشرّم، تجلس في بيت فارغ يملاه الظل، تخطّطه لطخات الشمس لكنها ما تقدر تمسح أثر العتمة والسواد الناقع في المكان. الهواء مكدس بنثار ثقيل، عتاقة ورثاثة غبار محبوس هنا من سنوات، يغطي أسطح الأشياء اللي فقدت لونها وصارت تستعرض شحوبها الموميائي. أحزن عليها، أسولف معها، أتودد لها. التجسد الفيزيائي الآني لعين لدرجة انه يمسح إمكانية تصور عكسه، لذا يصعب تخيل ان هالعجوز كانت في يوم من الأيام طفلة، فتاة، امرأة، تمشي على قدمين نشيطيتين، وجهها يكتسي بحمرة خجل أو شحوب وقاحة او امتقاع صيف، تشتهيها أعين وتكرهها أعين وتحبها أعين وتشمئز منها أعين. بديت أحبها فعلا. أسألها “وش الجديد؟” ترد “الجَديد عندكم يا أهل الجديد” .. كان الرجل ركب اللوموزين، ومشى من فترة. ظليت واقف دقيقة، ممكن أنتظر مَن ينخدع بموقفي ويجي يوقف بجانبي مثل ما وقفت بجانب الرجل، – ممكن الرجل كان يسوي نفس الشي معي؟ -، وقتها أنا مجبر اني أركب اللوموزين عشان ما أخرب إيقاع يومي أو إيقاعه بالاعتراف باني كنت أدعي. لكن محد جاء. رجعت للسيارة. باقي على الدوام ربع ساعة، مسافة الطريق.

البنك، مكعّب زجاجي، تغطي واجهته صور أشخاص مبتسمين، عروض، فلوس، سيارات، ألوان موزعة بإتقان دعائي. من الباب الخلفي، يبدو أني الأول، كالعادة. رواق ضيق يؤدي بك إلى الصالة. تقابلك مباشرة رائحة الصابون، الأرض المغسولة، الجدران اللماعة. كل شي معقم بدقة وتطرف. مكتبي، RO، خدمة كبار العملاء. صغير، على الركن الأرضي، محوّط بالزجاج، تفوح منه رائحة مكاتب العمل الاعتيادية، قماش الكرسي، خشب الطاولة، أسطح الأدوات، رائحة الجِـدّة اللي تغلف الأشياء المحدود استعمالها. الدقيقة الأولى تقضيها في امتصاص المكان، الضوء، الروائح، المساحة. تبدأ بعد هذا في ترتيب المكتب، الأوراق، الخرامة، الدباسة، الأقلام، كل شي يوزع في مكانه المحدد. المدير يحضر، “صباح الخير”. وجهه لا يفضح أي آثار نوم، مهندم، مرتب، دقيق جدا، يحسسك انه علبة، أو رسمة، شي ثابت، ما يتغير، مثل الأوجه المبتسمة في إعلانات البنك، واجهة إنسانية مقننة. “صباح الخير أبو منصور.  فيه اجتماع؟” يجاوب وهو يفتح مكتبه “ما يحتاج اليوم” اجتماعات افتتاحية، حول التارقت والانتاجية والحسابات، يروح أغلبها دردشة وسواليف. يتعاقب صف الموظفين، متشابهين، بأوجههم المجعدة، ونظراتهم المحايدة، وثيابهم النظيفة، وإيماءاتهم الكسولة. بعضهم يسلّم بشرود وكأنه ما يعرفك، الأكثر تشك انه أصلا يدري باللي حوله، يمشي منوم مثل آلة. التي بوي – بنقالي اسمه الحركي محمد، واسمه الحقيقي غير قابل للنطق، مقتبس من إله هندوسي له ثلاث مناخر – يوزع منبهات القهوة والشاهي. الكل يتخذ موقعه بصمت، الكل يجهز أدواته، الكل يجلس باستعداد في لحظة سكون مترقب. ممثلين على خشبة مسرحية وراء الستارة المغلقة. الكل يضبط ملامح وجهه، يصفف الحروف على لسانه، بصعوبة، ثم يُفتح الباب. أراقب الحركة البطيئة، الكل يُنتزع من وجوده الافتراضي، ويُسحب بعنف إلى حراك الطلبات والأصوات والأوراق. لو تركز، راح تشوف ذرات دخان تطلع من أجسامهم، وتتفتت برقة حزينة في الهواء.

بعد مدة، أتاني أول عميل .. المطلوب: استخراج كريديت كارد. أسئلة، ابتسامات، سواليف عن شتات أفكار. “العقار مهنة متعبة عكس ما هو مأخوذ عنها” يقولي بينما ننتظر اعتماد البطاقة من إدارة الائتمان “فيها ذبة وجه وحب خشوم ومنافسة شرسة ما ترحم” يروي لي قصة عن أخوين ورثا شركة والدهم العقارية العملاقة، ثم انفصلا لاختلافات بينهما، وبعد قضايا في المحاكم لتحديد ملكية الماركة العقارية التابعة للوالد، اللي هي أهم شي تقريبا، تم منحها للأخ الأكبر، فراح الأصغر يحاول يبني اسمه من جديد، بينما ظل أخوه يتعمد مهاجمته بكل قوة، وحجته في ذلك: إذا كان سيكون لي منافس، فما أريده يكون الشخص اللي يعرف عني كل شي، حتى طول ذكري. ضحكنا ببلادة على الكلمة المنسوبة للأخ، ثم كمّل السالفة: ظَل الأصغر يخسر ببطء، حتى انهار تقريبا. فما كان من الأكبر إلا أن اشترى الشركة المنهارة بستة أضعاف قيمتها، وبالتالي خرج أخوه وكأنه تقريبا لم يخسر. وهنا انتهت موعظة أخلاقيات العقار بثنائية الوحشية والنبل. لحظة صمت طويلة، تجرأت شوي وقلت وكأني لم أبالي بتاتا بالقصة “قبل مدة تم طردي (وشددت على هالكلمة) من شقق عوائل بحكم اني عازب، لأن واحد غثيث من الجيران ادعى ان أمي ما تزور الشقة فعلا كما ادعيت” هز الرجل راسه وكأنه متعاطف ولكن ليس لدرجة الاتفاق، ثم أخذ يشرح لي صحة الإجراء رغم قسوته. اللي لفت انتباهي، الرجل كان يعامل المسألة كموقف فكري، ما كان يعاملها كحالة فردية، لأن هذا اللي نسويه نحن، وأقصد بنحن الأشخاص المحايدين في الحياة بدون انتماء واضح لكيان حركي معين، الرجل يدافع عن القرار وكأنه يدافع عن هويته المتمثلة في صورة العقار/التجارة كمجال حياة وليس حرفة فقط. شخص مثل هذا بدا لي أنه على استعداد كامل للتنكيل بي في حال كان هذا الشي يخدمه، كان غير مستعد بتاتا للمساومة، للتسليك، لإسكاتي ولو بقطعة عظم. حسيت تجاهه بشي غريب، لا هو كره أو غضب كما تتوقع، ولا هو أيضا شعور متورط، هو شعور أقرب ما يكون للحياد، يشبه التفهم، فرغم جدلية موقفه المندفع، إلا إنه بدا أكثر إيمانا من كل الأشخاص اللي يحملون الأخلاقيات المعلبة مثل كبسولات يبلعونها في لحظات يحددها لهم أشخاص آخرون. لكن الشعور هذا ما ارتقى للإعجاب طبعا، لأنه ظل محجم بفرديتي اللي ما نست ان الرجل هذا على استعداد لأن يسحقني لو تطلب الأمر.

سلمته البطاقة المطبوعة. مشى بنفس الابتسامات والإيماءات والأفّيهات المكررة. وجلست أراقب، ولكن بأقل تورط، لأن كل شي الآن متيقظ تماما بشكل ممل ورتيب. الدخان تلاشى خلاص!

الوتس أب بدأ يصحى. أصدقاء إلكترونيين، قروب كورة، قروب سينما، قروب أدب. نادرا ما أشارك، أتابع فقط، وليس بشكل دوري أيضا وإنما غالبا في نهاية اليوم. أحيانا أحطّ إضافة سواليفية: ما اشوف غاريث بيل صفقة فاشلة لريال مدريد، لكنه يتم توظيفه بطريقة خاطئة (رغم اني ما تابعت ولا مباراة لريال مدريد). صدقت، أفلام أبيتشاتبونق عظيمة غالبا، وخصوصا نبرته الواقعية المتعالية على ركاكة التكرار (شكرا لله/لعنة الله على اختصارات الجمل المعلبة)، بحاول أكتب عنه مقال (ولا راح أكتبه). لا، ما قرأت أي شي للازلو كرازناهوركاي، اسم ذا والا طريق سريع :D، لكن هو اللي اقتبس بيلا تار رواياته، صحيح؟ (صحيح، ومدحته سوزان سونتاج، كاهنة المثقفين الجدد اللي تكتب في كل شي تقريبا) .. لست غاضبا على التقنية، كليشيهات المطالبة بمزيد من الحضور الفيزيائي للعلاقات والأماكن. لكني أحيانا متململ من الوضع كله، فيه عدة منافذ إلكترونية مهما هربت منها فهي تمثل نقطة امتصاص مغناطيسية إجبارية. الوتس أب، تويتر، الجوال عموما، كأمثلة. رغبة كسولة بالضمور والانكماش، أحيانا، إنك تتراخى في خمول لذيذ مؤقت. لكن وجودك الافتراضي في هذي المنافذ، حتى لو حاولت تهملها، يظل يزعجك لأنك تعرف إنك لاتزال تتواجد فيها آنياًّ. أخوي صالح لما كان ياخذ إجازة يومين وينوي انه يسترخي في هدوء بيتي ممل، يدخل سيارته في البيت! سألته “يعني في رأيك فيه أحد راح يجبرك تطلع اذا شاف سيارتك؟” الاختفاء سيظل ناقصا ما دام له أثر معين في الظاهر .. بإمكانك أن تراقب حركة الشارع من خلال الجدار الزجاجي للمكتب. منوِّمة مغناطيسيا، السيارات، الشخوص الواقفة والماشية بظلالها المتشابكة، نخل الرصيف اللي يبدو نعسان، محدودب برثاثة منهكة، الشمس، صفوف المحلات المعتمة في بُعدها، هذي بالذات تحذبني دائما، أبوابها المشرعة، أفواه كهوف مظلمة يدفعك فضول غريب إنك تدخلها وتشوف وش وراء العتمة، وكأنها تمتصك امتصاص. ارتخاء الجلسة في الصندوق الزجاجي هذا، تراقب، تحدق، تكتشف، العالم نسخة مكبرة آلاف المرات لفيلم من أفلام فريدريك وايزمن، ولذا هو ممل للبعض، لأنه غير منتقى، متعدد الخيارات بشكل متطلب مزعج. صور، لحظات، هامش، فائض. لذة ناعسة في الموقف، جماليتها في لاجدواها، لافائدتها، لاغائيتها .. فجأة، مرت بنت أجنبية شقراء قدام الجدار، وكأنها طلعت من حواف كادر خشبة مسرحية، جميلة جدا، بعباية كتف مرسومة على انحناءات جسمها النحيف والمحدد بعناية. استحوذت تماما على المشهد، وكأنها تنتزع انتباه كل عين، تسحبهن بخيوط وهمية وهي تمشي بهدوء، تسحب بخفة وأناقة وغموض، تبعد بشويش، وتسحب، تبعد، تبعد، تتضاءل، ثم تختفي، تطيح النظرات الشاردة على حافة مدى الرؤية مثل حبّات السبحة لما ينفرط الخيط، ويلوح على ملامح كل واحد شرد معها في مكانه نظرة حيرة بديلة، وكأن اللي شافه عبارة عن طارف وهمي لم يكن. البنت اللي مثل هذي تعيد برمجة المشاهد والمزاجات اللي فيها بشكل خطير! .. من كل البنات اللي عرفتهن، وعددهن 8، كانت وحدة فقط هي اللي جميلة جدا. أذكر اني لمدة طويلة من علاقتي معها ما عرفت أي شي عنها بتاتا، كان حضورها البدني الحسي يطغى بشكل مرعب، لدرجة ان أي شي يُقال خارج إطاره يبدو غير مهم. لاحقا، وبعد ما انقطعت عنها، بدأت أفكر في هالميزة الغريبة بشكل مضحك، إنك تكون أكثر جمالا من اللازم، لدرجة ان أي محاولة تعميق تبذلها تبوء بالفشل! أذكر انها كانت تحاول تقص علي شي من طفولتها، وأنا أحدق فيها بقوة، وأحاول أتابع فعلا الكلام اللي تقوله، لكني أفشل، وجهها كان انتزاع مفرط القسوة لأي ذرة انتباه تحملها في ذهنك. ممكن تفهم أجزاء من اللي تقوله، لكن في المجمل صعب تفهمه بشكل كلي. كنت تحتاج الى وقت طويل من الاعتياد عشان تستوعب ما وراء صورتها الطاغية، ووقتها تكون أكثر ارتباكا من انك تطالبها بأن تعيد تقديم نفسها. بغرابة عجيبة، هذا الشي كان مزعج! كانت مثل منظر مصنوع بحرفية شكلية عالية، يسحب كتلة تركيز ذهني حاد. جمالها، ممتع أكيد، لكنه أيضا متطلب بشكل متطرف.

عميل جديد. إصدار دفتر شيكات. نفس الابتسامات، الإيماءات، السواليف. ولكن بأقل إثارة للاهتمام من سابقه، مسؤول في البلدية، متحفظ، منشغل بجواله … يتبعه ثالث، رابع، خامس .. وهكذا.

في درج مكتبي، كتاب يفترض أن يكون قراءة خفيفة في أوقات الفضوة والركود. الكتاب صراحة من أنهك ما قرأت. أهداني إياه صديق مهووس بالتجريب في اللغة، اسمه:take it or leave it للأمريكي رايموند فيدرمان. الكتاب يجوز إدراجه تحت مسمى أدب المنمنمات اللي انتشر في أمريكا السبعينات، وهو اللي يحاول أن يخلق صيغ صورية للكلمات. فكلمة lighght اللي كتبها الأمريكي آرام سارويان تعتبر “قصيدة” مستقلة من كلمة واحدة، وأحدثت ضجة لها تداعيات سياسية بسبب صرف مكافأة للشاعر على القصيدة بعد ضمها في أنطولوجيا مَـوَّلتها أموال الضرائب. الكلمة تحريف لكلمة light-ضوء، لكن التحريف له امتداد إيحيائي صُوْري يمطّ الكلمة إلى شكل من الانعكاس البصري، وبالتالي تستفز ردة فعل لحظوية، تكاد تكون انطباعية، تندمج فيها أوتوماتيكية القراءة اللغوية والاستجابة البصرية المباشرة. تخيّل نفس الآلية، ولكن بشكل أعمق وأكثر توسعا وجنونا عند فيدرمان.

IMG_1987IMG_1984IMG_1983

أول ما أعطاني اياه الكلب – خالد، مبتعث في أمريكا، يدرس الأدب الانجليزي بعد ما كان رايح يكمل دراسة الهندسة، يعمل متعاون مع مجلة AGNI – وصفه بأنه قراءة صعبة للأغلبية، باستثنائي، بحكم الطبيعة “الصورية” اللي في الكتاب. فيدرمان يحاول بكل جهد ان يخلق نمط، لا تتشكل فيه الصورة فقط، وإنما الصوت أيضا، النطق، ثم يصنع من خلاله سياق تعبير لا يضع الفهم أولوية له وإنما التلقي الحسي. وكأن الرواية تحاول القيام بدور سينمائي .. المهم، عجزت أقرا الكتاب. أتفهم اللي يبيه، لكن ما عندي الرهافة الحسية الكافية لتلقي هالسياق التعبيري اللغوي السينمائي اللإلى آخرة.

في ساعة الغداء، وهي دائما منقوصة ومسلوبة دون تعويض، نطلب غالبا من مطعم، ونجلس ناكل جميع في أماكننا المتفرقة. الكل عنده حكايات لتقال وأفكار لتشرح وصور لتصوَّر، ما أذكر لحظة صمت مرت على الجلسة العشوائية الارتجالية، وهو أمر يبدو – لما أفكر فيه أحيانا – مضحك. عادل مثلا، متزوج وأب لطفلين، يعمل تيلر من ثلاث سنوات، في الثانية والثلاثين من العمر، عنده رصيد هائل من القصص حول طفولته في ثادق. “وشهي ثادق ذي؟!” من حقك تسأل باستحقار واستنكار، لكن بالنسبة لعادل، ثادق هي مجموعة أشياء كثيرة متأصلة فيه، الرجل متورط في عاطفته تجاه المدينة، لدرجة ان عاطفته مُعدية، قد تكون مكررة أحيانا بشكل يخليك ترغب في إقحام نعلة في فمه، ولكن مجملا معدية. نفس الشي يقال عن جراح، في الأربعين من العمر، متزوج وله ثلاثة أطفال، يشتغل مدير مبيعات في البنك، مهووس بمساعيه التجارية المعلقة غالبا، يعرف أماكن في الرياض ما أظن كائن آخر يعرفها، أغلب المحلات في أحياء البطحاء والديرة والملز، من وين تقدر تحصل على سكروب جيد بسعر جيد، ومن أيّ حراج تقدر تحصل على أفضل سعر مقابل سرير ودّك تبيعه. منصور كذلك، عزاب، صراف، في الرابعة والعشرين من عمره، حياته ملخصة في البنات تقريبا، الهوس المنهك المرضي المتعرق بالبنات، أحيانا يجيني بجدية جامدة، يجلس قدام المكتب بحذر، ويسأل بشكل من التواطؤ سؤال غريب مثل “وش رايك في البرازيليات؟” وقبل ما يتسنى لي افتعال ردة فعل مناسبة، يكمل بنفس الجدية “لأني ناوي الإجازة الجاية في البرازيل”. وهكذا .. جميع هؤلاء الأشخاص، يتكون بينهم إيقاع شديد الحساسية، لدرجة انه غير ملحوظ أو ملموس، بحكم الوقت، الثقة، المشاركة، القرب. الصندوق الزجاجي اللي يحتويهم يطوق ذبذباتهم لدرجة انك انت، كواحد منهم، تبدأ تستقبل ذبذبات غيرك، وتكتشف انك في يوم من الأيام، وأنت تحاول تبحث عن صور لبنات جميلات على النت في ليلة خلوة مياسة، تكتب في جوجل “brazilian girls”.

مع آخر ساعة للدوام، يبدأ أكثر أوقات اليوم إثارة للانتباه: العصر. أتفرغ كاملا للجدار الزجاجي المطل على شارع التخصصي. في داخلي لذة رتيبة، ولكن غير مستهلكة. أحيانا، في لحظات التأثر الزائد؛ تكاد تكون ألم، يوحي به عجز التلقي المحدود. العين مجرد جهاز يلتقط الصورة، الدماغ هو اللي يبرمج تركيب المشهد بشكل كامل، ولذا الكل يفسر العالم صوريا بـ لاوعيه/وهمه الخاص. غشاوة حلم صفراوية نثاريّة بإيماءات الحركة، اليومية، الاعتيادية. كان العصر هو مركز اليوم، اللحظة اللي تتحرر فيها من سجن المدرسة وتبعاتها ومن قيود الليل وتبعاته. العصر لك بشكل كامل. شوارع اللعب العشوائي، أماكن التمشّي الاستكشافي في عمق المدينة الكبيرة، النشاطات اللاغائية اللي كنا نبداها ولا ننهيها. الهدوء الناعم لوقت تبدأ الشمس تخفف حدة غضبها فيه، الظل يتورط في تقليم وتأطير المشهد، الشوارع أبرد، أفسح، الناس منشغلة بتبعات قيلولتها، الهواء أرق، الرؤية حمراء مغبشة وكأنك تمشي في لوحة. التناغم الأوركسترالي بين الضوء والظل في فوضى جازيّة مقننة، يغرق نصف الجدار الأسفل تحت صبغة سواد باهت، بينما يومض النصف الأعلى بوهج صفرة باردة.

7 ‫‬

أقضي ساعة في الشوارع بعد ما أطلع من البنك، إما أخلّص الأشغال اللي أجمعها في مثل هالوقت، أو أدور بالسيارة، عشوائيا. من التخصصي إلى العليا إلى الملك عبد الله إلى تركي بن عبد العزيز إلى العروبة. تاخذ شاهي عدني من يوم القهوة على شارع أحمد بن عبد العزيز، تقف عند بعض المحلات إذا لك مزاج. المكتبة التراثية على الملك عبد الله، حراج الكمبيوتر على العليا، آيسكريم المانجا على التخصصي. محلات أثاث، معارض سيارات، تصميم مطابخ، عطورات، ملابس. في الرمق الأخير، يصل امتقاع الشمس إلى تمايز ظلي بوليفوني يقضي على الملامح، الأشكال تكتسب صبغة سوداء أمام انعكاس الشمس اللي تُغرق رقعة السماء بحبر برتقالي. ثم تخفت بسرعة، وتلفظ أثر ضوء من البقعة اللي اختفت منها، ضوء شاحب مزرقّ لامرئي يهبط على أسطح الأشياء بكآبة حزينة، مثل ستارة المسرح الختامية.

9

انتهى العرض. وقت الرجوع إلى الشقة. المدخل المعتم، الفرشة المكرونية، البرادة، الثلاجة، الفرن الكهربائي، الميكروويف، المواعين، التلفزيون، اللابتوب، أكياس البطاطس المتناثرة، النجفة البيضاء بالغطاء الشفاف المكوّر اللي يوزع الضوء. كل شي في مكانه. لم يُـلمس، لم يتحرك. رثاثة غريبة في المكان، جمود متجهم، وكأني ما كنت هنا من ساعات. الضمور اللي يُعقب اللحظات العظيمة. بداية نهاية اليوم.

أكره المغرب. وقت سافل. في المجمعة، كان المغرب وقت الجلسة العائلية اللي تمتص نتوءه الشاذ في تسلسل اليوم، أما الآن فهو فائض ودخيل ونشاز. أستغله غالبا في الكتابة أو القراءة. أختار اليوم الكتابة، وأفتح ملف القصة القصيرة اللي أكتبها من أسابيع.

إذاً: بعدما مات كريس ماركر، قرر أن ينسحب – في حياته الثانية – إلى عزلة تامة. بنى بيته فوق جبل كبير في قفر مهجور، تلمع أضواؤه من بعيد مثل بلّورة صغيرة تنحت سقف الليل. إذا استقر القمر المكتمل فوقه يبدو وكأن البيت قطرة ضوء تحدّرت منه .. في كل صباح، ترفّ مجموعة طيور فوق أفق الجبل، يشوفها ماركر ببلادة رتيبة، ما يشعر بأي عاطفة شاعرية غامضة تجاه أن يكون طير، أن يكون لديه قدرة على الطيران ليرى كل شيء ببانورامية واسعة. الذهنية الفضولية تتقلص إلى حدود الرتابة الضيقة اللي فرضها على نفسه، كل شي شبه منطفئ .. ولكن، الانتباهة الأولى، اللي تنشأ بشكل غامض ولاملحوظ، في أقصى مناطق الوعي: تتجسد، ببطء .. المكان مقفر، تماما، مهيأ للسكون واللاملاحظة. ولكن بالتدريج، ومع التكرار، تكتسب الصورة الكثير من التفاصيل، بعضها يثير الشك، لأنك تنتبه له لأول مرة. نخلة وسط الصحراء المقفرة، تقف وحيدة، مثل شيء أزلي أبدي منعدم التاريخ. ماركر شاف النخلة مئات المرات، ليه الآن فقط، يلاحظ التواء الفسائل على برعم الأم بطريقة لولبية؟ .. بصدف مصطنعة، صار يزور النخلة، كل يوم، يراقبها بخجل، وكأنه يلوم نفسه على خطيئة الفضول. تمر ساعات طويلة، يلاحظ تفاصيل لم ينتبه لها. خطوط الحَـفر في اللحاء كمسارات سواقي جافة، انحناء الغصن على طرف غصن آخر وكأنه يتلصص عليه، يلاحظ ويلاحظ ويلاحظ، حتى بدت النخلة لانهائية، مطلقة، تلد التفاصيل تلو التفاصيل، تتكاثر، ولكنها في نفس الوقت: لا تتغير، كل ما ينشأ يظل محصور بوجودها الأزلي، منذ أن كانت. كيف؟ يسأل نفسه .. ما صار يخجل من فضوله، يجلس بجمود صلاتي في مكانه، تنحسر الشمس فيرجع للبيت، يسجل التفاصيل، ثم يروح للنخلة من جديد، يجلس بثبات، يلاحظ ويلاحظ ويلاحظ، النخلة لا تتوقف عن الولادة، سلسلة من السرمدية اللامنقطعة .. ذات صباح، ترك البيت، وعاد إلى المدينة، وقرر صناعة فيلم أخير. وهو شي غريب، على اعتبار أن أغلب الموتى لا يريدون أي صلة بحيواتهم السابقة، ولذا لا أحد منهم يرجع مهما توسلنا له! .. يجلس الكثير من الوقت وهو يكتب، يصور المشاهد مئات المرات، يعيد مراقبة كل لحظة، كل ثانية، كل فريم في خلفية الكادر .. تمر السنوات ببطء، والفيلم يكبر، ولكنه لا يطول، زمنه لا يتجاوز ساعة ونصف، ولكنه بشكل ما يبدو هائل، متاهة، لانهائي، لمّا تشاهده تكتشف في كل مرة الكثير من التفاصيل اللي ما لاحظتها من قبل، تلد بعضها بطريقة مطلقة مستفزة. النقاد اللي شافوا الفيلم، ظلوا يعودون لمشاهدته، والفيلم يرفض انه ينتهي. واحد منهم كاد أن يصاب بالجنون بعد ما حجز نفسه في غرفة، واستمر يشاهد الفيلم لأشهر .. شعوذة، سحر، إلهي. أوصاف معلبة تشرح الفيلم .. ماركر، المكتئب بعمق، المدرك لفكرة أن فيلمه مجرد نسخة مصغرة مما هو أكبر؛ شعر أنه تم استثناؤه بظلم، أنه مقيد بلعنة العين البانورامية، وأن الموت – اللي أنقذه – لم ينقذه فعلا! .. يطلع في الشوارع، مدلّه بشهوة قسرية جبرية لا قدرة له بكبحها. يدور في الأزقة، يراقب الحركة. كثير من التفاصيل، كثير من الأشياء المتوالدة. هوس اكتشافها، القبض عليها، اختزالها. يبدأ بالسقوط بخفة لامرئية في فخ: يخرج بشذوذ منفصل عن نطاق الحركة حوله، يختفي عنده الفرق بين النهار والليل، ينسى أن له جسد يجوع ويعطش وينام، يمر الوقت عليه ككتلة واحدة، هائم، مشرد، تائه في أمكنة ما مرت عليه من قبل. التفاصيل تتكاثر بكثافة متوحشة في تدفقها: ما كانت نخلة، وإنما غابات من النخيل، ما كان فيلم اختار مخرجه لقطاته بانتقائية منظمة، وإنما فيض من المشاهد اللي تتداخل بعشوائية صاعقة. هذا العالم هذا الوحش هذا الجسد الكوني الللانهائي! كل شي حوله ينهمر، يتدفق، ينفجر. الحياة زحام هائل. يراقب، يتورط. يتوسل لطفل أن يقف في مكانه لأطول مدة ممكنة عشان يراقبه، يحدق في لوحة سقوط إيكاروس المعلقة في الفناء العام، فينتبه لمشرد يتكئ على الجدار الرخامي اللي علقت عليه: يراقب من ويترك من؟! .. يتذكر – كأحلام مكركبة – بيته في الجبل، يتذكر عزلة الجلسة أمام النخلة الوحيدة في الخواء، ستكون أكثر رأفة من كل هالزحام المتفجر. ولكن الانسحاب خيار اعتباطي. إنسى! .. كلب متغضن تقفز تفاصيله مثل شعاع ضوء حارق. بحر من الأوجه والأجساد والملامح والتعبيرات والإيماءات والحركات. أودية شوارع مخددة في خنادق بنايات تتطاول إلى أعلى نقطة في مدى الرؤية. غابات صنوبر وصفصاف وسدر وطلح. سلسلة تلال نحتتها رياح التعرية. صفوف محلات يستحيل حصرها .. يُجن، تقريبا. يواصل الهيام، والهزال، والانهيار، والتشرد. ثم يموت .. يحرره الموت، لكن إلى متى؟! فالموت الأول فشل .. رعب الأبدية يتآكله .. لامفر، لامَـنفذ، لامُـنقذ!

بالعادة، لما أشوف فيلم أو أقرأ كتاب، فأنا عبارة عن شخصين: الشخص اللي برّى المشاهدة، والشخص اللي داخل المشاهدة. منفصلان، تداخلهما في بعضهما لا يتجاوز، خلينا نقول، إطار تنظيري معيّن .. لكن، الكتابة، اختلاق الخيال عموما، شي مختلف تماما! .. في كل مرة أكتب نص سردي، في كل مرة أسجل فكرة فيلم طرأت علي، أحس اني متورط بشكل خطير، بشكل ما تعودت عليه، بشكل ما يناسب طبيعتي الحيادية. ما أبالغ لما أقول: أنا مرتعب نوعا ما! مخترَق!

أسكّر اللابتوب. آخذ لي عدة لحظات وأنا أحدق بجمود في الفراغ، أسمح للهدوء أن يمتص السرعة اللعينة اللي في راسي .. يحدث هالشي بعد كم دقيقة، أشوف حولي، وكأني أدوّر شي ينقذ الموقف من كل هالسلبية .. آخذ جوالي، فرصة إني أشيّك على تويتر. كتلة أشخاص منتقاة بارتجالية ومعرفة مسبقة انتهى وقتها، وكالات أنباء وقنوات سياسية، مجلات سينمائية وأدبية إنجليزية. العالم في صندوق من الاقتباسات المعلبة في ١٤٠ حرف. الجميع يتم تقييمهم وفق هالمساحة المختصرة المعلبة المحدودة. العالم صار يبدو وكأنه CV، تحتاج إلى أن تحجّم نفسك باقتضاب في مجموعة نقاط محددة، وراح يقيّمك الآخرون بناء عليها. العالم مقابلة وظيفية! .. مقالة مهمة في النيويورك تايمز للبريطاني جون رونسون، تعتبر تلخيص لكتاب سيصدره so you’ve been publicly shamed في 31 مارس، تتكلم عن “عصابات الريتويت” وربط التشهير بقوانين منعه التاريخية. رونسون يقابل أشخاص كتبوا في لحظة استهبال أو حمق أو قلة استيعاب تويتات مُهينة، إما لعرق معين، أو فكرة معينة، وبالتالي went viral، والترجمة المناسبة لهالعبارة الإلكترونية نستمدها من القواميس الدينية: تم صلبهم! يصف رونسون أن أغلبهم، بعد مدة مما حدث، خسروا وظائفهم، تعرضوا لأمراض نفسية، إنتهت علاقاتهم العاطفية. بعضهم تحطمت حياته تماما. أتذكر عدة حوادث مشابهة عاصرتها عربيا، وأتذكر ردة الفعل العنيفة المندفعة، ما كانت إحساس بالمسؤولية، بقدر ما هو تعطش للصلب والتشهير والاحتفال بذلك، تذكرك بكرنفالات إحراق الساحرات في القرون الوسطى الأوروبية، محد مهتم فعلا، كل ما يريدونه هو المشاركة في الكرنفال. في المقال جُملة – لامرأة حمقاء كتبت تويتة حمقاء صلبت بسببها دون حيادية – هزتني، نوعا ما: انا لست في حال جيدة. كان لي مستقبل وظيفي واعد، وكنت أحب وظيفتي، لكن هالشي “أُخذ” مني، وأخذوه مني بكثير من الفخر، الجميع كان سعيد بذلك.

الليلة تتجه إلى جو كئيب خرائي ..

إتصلت على صالح. تواعدنا كالعادة في مقهى الماسة على آخر طريق العليا. انتظرنا في السيارة حتى فتح المقهى بعد صلاة العشاء. استغل صالح الوقت لإبداء امتعاض متكرر من طريقة عمل هيئة الغذاء والدواء، اللي يشتغل فيها كمراقب. صالح يعترف أنه راح يقبل أخذ الرشوة في حال تم عرضها عليه وكان الشي المطلوب منه التغاضي عنه ما يضر أحد. في المقهى، الجو المعتم للمكان خاثر وكسول، الأوجه الموجودة تعيسة، أو تبدو كذا. الليل دائما يبدو ممل بالنسبة لي، الناس فردية، مستقلة، فقدت جاذبيتها النهارية لما كانت مرتبطة باتجاهات وأعمال وحركة مسيرة نوعا ما، أما في الليل فهي هي، بكل انفصالها واستقلاليتها المملة الرتيبة المتورطة بفضوتها، يجلسون بكسل، بخمول، بتهدل، بحرية. فيه حرارة مفقودة، عنف مفقود، اندفاع ووضوح وحركية مفقودة. “وينك شارد؟!” صالح يسأل بحدة، أنتبه أكثر. يكمل كلامه عن فساد النظام الحكومي الارتجالي، الانهيار الوشيك للمدنية المفتعلة في مجتمع نخبوي سلطوي انتقائي. كلام أضخم من فضاوة الجلسة هذي. صالح شخص يبدو غاضب دائما، لكنه في حقيقته وغد حزين. أقولّه بعد لحظة صمت “حملت مجموع أفلام مايا ديرن القصيرة، وراح أشوفهن الليلة” تلمع عينه، انتباهة نهم صبياني، يبتسم بانتصار يتصنع اللاامبالاة “أخيرا”. في ظل كل مشاريعه المثبطة واعتراضاته الساخطة، تقدر تكسبه دائما لما تجيب طاري السينما. صالح من نوع الأشخاص اللي راح يظل تعيس طول حياته، مهما نجح، هذي تركيبته النفسية، والفيزيولوجية كذلك، إلا في حالة واحدة: لما يكون قدام الشاشة اللي تعرض فيلم، سواء كان جيد أم سيء، لا يهم، المهم انه فيلم، وقتها تحس انه يتفكك، يتجزأ، يتشظى، ولايبقى منه إلا النقطة الجوهرية الصغيرة جدا، النقطة المضيئة النابضة المتوهجة مثل شاشة في غرفة مظلمة. ولهذا أحب الوغد، بقدر ما يحب السينما. يقولي “مايا من أهم التجريبيين في القرن العشرين. تخيّل معي الأربعينيات، لما كان نظام الأستوديو الهوليوودي في عز سطوته وعنفوانه، تخرج امرأة بإمكانيات تافهة وتصنع شي – مهما اختلفنا معه – إلا أنه لا يخطر تقريبا على بال الكثيرين. شوف بالله أفلامها، حتى لو ما جازت لك، ركز على سعة الخيال في الصورة، ياه يا رجل، كل فريم ياخذك إلى أماكن بعيدة، يستفزك ويلعب فيك وينيك مخك. مرعب ومحفز ومؤثر” ثم يعتذر لنفسه مثل الناقد الحصيف اللي يخجل من التجوز في الانفعال كما يفعل الهواة “طبعا أنا أبالغ، لاشك، لكنها تظل شي عظيم، خصوصا لما تاخذ بالاعتبارات والسياقات التاريخية”

تعشينا في المقهى، ثم تفرقنا على حدود الساعة ٩:٣٠. في الطريق للشقة، علقت في زحمة عند مخرج المستشفى الألماني، اثنين معطلين السير عشان خدشة، ما اقدر اسميها حادث. من الغريب كيف ان موقف تافه مثل هذا قادر يعكر مزاجك. أنت، كشخص، هش جدا، أي شي ممكن يعكرك! هالفكرة أزعجتني جدا. بعد نصف ساعة وصلت للشقة منهك، مستنزف. استقبلتني الرائحة المألوفة بعداء متبادل، الرثاثة والجمود في المكان تزداد حدّة وكثافة. العين كجهاز استقبال يعتمد على ترجمة الدماغ، والدماغ حاليا، خليني أقول ثقيل، كث، مثل سائل زبدي متخثر يترجرج ببلادة. جهزت ابريق شاهي التلقيمة، ووقفت قدام الفرن أنتظر الماء يفوح. كل شي في منتهى الهدوء، لدرجة ان الصفير اللي يُحدثه الصمت دائما ما كان له أي أثر. المكان محايد بشكل سلبي متطرف. بدأت أسمع، بخفوت، صوت الماء يطبخ، ببطء، وكأنه يصدر من خلفية مكممة في إطار مكاني آخر خارج هالإطار .. قبل أشهر، كنت في المجمعة، طلعت من غرفتي المغرب فلقيت بنت أختي – ٥ سنوات، عفريتة، ما تركد – تلعب في الصالة مع طفل ما أعرفه، يبدو في حدود عمرها. كمية الكهرباء اللي في الاثنين تقدر تشغّل مدينة كاملة. استقبلاني بصرخات غير مفهومة، مطالبات متداخلة، من قوة عنف النشاط اللي فيهما لغتهما غير قادة على الترجمة. الطفل كان حفيد خالتي، تسكن في قرية حرمة مع أمه المطلقة، بيت كامل ما فيه الا الثلاثة ذولي. نزلت وسلمت على خالتي، وطوال جلستنا، كان صوت الطفلين هو كل ما تستطيع سماعه، كان مسيطر على المشهد بعنف ما تشوفه إلا عند متعاطي مخدرات أو طفل. بغرابة، دخلت بنت اختي في آخر الجلسة، بهدوء شاذ، اقتربت خجلانة من أمها، سألتها سؤال فضحكت أختي وقالت طبعا لا. لما قامت خالتي عشان ترجع لبيتها، تحولت كل طاقة الطفل من اللعب إلى البكاء، بكى بطريقة مرعبة، نحيب ونواح حار وحميمي. ما فيه شي يرعبني أكثر من بكاء طفل، يبكي بذمة، بعنف، لدرجة انك تشك انه يشوف شي خفي موحش محد يشوفه، فيرعبك الافتراض المخيف هذا. وهو عند الباب، يده في يد جدته، طلّع من جيبه عشرين ريال، وعرض بين الصياح المتواصل انه يشتري بنت أختي. أنا جيت بضحك، ثم انقبضت فجأة. بعد ما طلعوا قالت لي أختي بصوت المستمتع بظرافة الأطفال “عشان كذا كانت تسألني يمه يصلح أحد يشتريني” .. فاح الماء بصفير حاد شتت الصمت الثقيل. حسيت اني أُنتزع انتزاع من عمق بعيد. سويت الشاهي، شبكت الهارد ديسك في الشاشة، طفّيت الأنوار، وجلست في استعداد لليلة غرائبية مع مايا ديرن.

صور مكركبة، أحلام بو-وية كافكاوية، رعشة خشية وخوف وتوجس. كل شي متداخل، مستعصي، متمنع. فيه استفزاز قاتم متربص ذو طبيعة عدائية في صورها، اضطراب لاإحترافي بسبب قلة الإمكانيات، يمنحه المزيد من المصداقية. مايا ديرن تجسد أولى تجارب الهوس الإبداعي السينمائي بالغموض في جانبه الشكلي، في تماشي متوازن مع مزاج ذاك العصر. منذ بيكيت في المسرح، اللي رسّخ قناعة أن العالم كتلة من العجز المنتفي فائدة شرحه لعدم يقينية هذا الشرح وبالتالي لاجدواه، وبريخت – قبله – اللي دعا إلى جعل الإبداع أقرب ما يكون إلى عملية دراسية تطرح المواضيع بحيادية فوقية، ويونيسكو اللي قنن إعادة خلق القانون الفيزيائي لينتج عالم إيحائي لامنطقي. الفن والأدب سبقا الفلسفة في التجريد. التجريبية، اللي هي محاولة تجريد الشكل من المعنى بغرض جعله الواجهة الوحيدة للتجربة الإنسانية، أي: ليس هنالك معنى، أو خلينا نعيد الصياغة: ليس من الضرورة أن يكون هنالك معنى. ومن هالمنطلق – بغضّ النظر عن النتيجة اللي وصلت لها – كتبت سوزان سونتاج مقالة “ضد التفسير” الشهيرة. العالم وقتها كان عالم الغموض، عالم اللاجدوى المضمونية، عالم المتاهات اللاغائية. وبالتالي من المستحيل “تفسير” أعمال مايا ديرن .. في رأيي، السبب الرئيسي وراء شهرة بيرجمان، خصوصا بين المثقفين، هو أنه أبرع من جمع بأستاذية بين “المباشَرة” – اللي يجب القول أنها كانت ولاتزال مستهدفة نخبويا – وبين “الغموض”: وضوح وحدّة المعنى، وفي  نفس الوقت، الغموض الضبابي اللذيذ اللي يغلف التجربة المباشرة هذي. بيرجمان – مثل كافكا – من الممكن تناوله فكريا، ولذا هو مشبع كأفكار، ويمكن تناوله كشكل، ولذا هو مشبع كغموض وإيحاء. رحت إلى مجلده الخاص في مكتبتي الإلكترونية، وأعدت مشاهدة أول فيلم التوت البري، ولا حسيت إلا وسواد النهاية يغطي الشاشة، وتندمج في سواد الغرفة المطفأة الأنوار. وفجأة لقيت اني في ظلام.

IMG_2013

لا حركة. لا نبض .. الشارع الأبكم، الدريشة الشاحبة .. لذعات أفلام وأصوات قديمة، استطعمتها فجأة في فمي، عالقة في الجدران اللزجة، تتخمر .. عتاقة سواد خامل، أبدي ..

حركة فاترة في ذهني .. الظلام محفّز فكري عظيم، خلوة تأمل آمنة .. العقود الماضية، أو بشكل عام القرن العشرين كاملا، هو قرن كان المثقف “متورط” فيه، لأنه قائم على التأطير التنظيري، على “وجوب” اتخاذ توجه ثقافي شكلي معين، كل شخص لابد أن يكون له سِمة، سياق، نمط، شكل إعجاب خاص. وأنا أتكلم هنا عن العموم، وليس عن الاستثناءات اللي بإمكانهم أن يخلقوا أنماط إعجابهم الخاصة. العصر ذاك حاد، تحزبي، أحادي الذوق. ولذا تم شنق كثير من الأذواق الأدبية فيه، تم تهميش كثير من الأشكال المختلفة، إما بحجة عدم نخبويتها أو لأنها تكرر نفسها بطريقة رجعية. نحن الآن، من سبعينات القرن الماضي تقريبا، في عصر أقل حدة، أكثر تحررا، عصر من السهل انك تقول فيه “أنا لست ضد التفسير” ولا يتم صلبك ثقافيا بحجة أنك أحمق. أنا هنا براجماتي تقليدي، مقتنع بنظرية وليم جيمس اللي يربط “الصحيح” ليس بذاته، وإنما بنتيجته. إذا كانت نتيجة الفعل الفلاني تقدم خدمة معينة، فهو إذاً صحيح. فالتفسير، إذا قدّم لي نتيجة جيدة، لا يهمني أنه صحيح أو لا في ذاته. استمتعت مثلا بمقالة ناقد عن المحاكمة لكافكا وربطها بفلسفة النظام القضائي، ليس لأن تفسيره صحيح، بل أحيانا ربطه مضحك وتعسفي، ولكن لأن التفسير قدم لي زاوية رؤية جديدة، نتيجة مختلفة أقدر أستفيد منها. ونفس الشي في تعاملي مع العمل الأدبي/الفني نفسه، حتى لو أنه مخالف لمزاجي وقناعاتي التنظيرية، إذا قدم لي نتيجة جيدة، أيا كانت هذه النتيجة، فهو صحيح ومقبول. لذا أنا عندي استعداد أن أقرأ وأشاهد كل شيء تقريبا، كلمة “تحفظ” محجّمة في قاموسي، اللي بيني وبينك هو النتيجة .. طبعا هذا المناخ سيقود إلى فوضى عارمة ثقافيا، وهو الحاصل حاليا، وهو أحد أسباب أنه لم يعد هنالك ثورات ثقافية كما كان في القرن الماضي، العالم لم يعد مصمما لقبول دعوات أحادية، لكن شخصيا ما عندي مشكلة مع هالفوضى، لأني “حر”، غير مقيد بصرامة تأطير تنظيري لكل شي، لدي القدرة على انتقاء ما أريد واستخدامه بالطريقة اللي أريدها. النتائج، ولا شيء غير النتائج ..

لازلت منسدح تقريبا على الجلسة، وسط السواد، خاثر، منطفئ، وكأني عاجز عن الحركة، أو غير راغب فيها. الساعة 12:30، لابد أنام. أحس بالسرير – اللي بعيد في الغرفة – وكأنه بجانب الجلسة، كل ما تطلبه الأمر هو حركة أشبه ما تكون بالزحف والتسلّق، ثم فعل الاستلقاء. حركة آلية، تقريبا.

أغمّض، لكن بيقظة عنيدة. أسمع، من بعيد، أصوات السيارات، مثل خط القلم، خافت، ثم حاد، ثم خافت. ظلام الغرفة شبيه بظلام العين المغلقة، محايد، مطفأ، عديم الملامح. أرق ليالي وسط الأسبوع .. “Hey, Mr. Tambourine Man, play a song for me. I’m not sleepy and there is no place I’m going to”

أجلس وسط السواد. أقلّب في الجوال. تطبيق أخبار رياضية، أزعجونا بإشاعات بوغبا. لعبة تربية كلب، نسيته من ثلاث أيام فمات، الله يرحمه. موقع قناة العربية، قصف وموت واحتلال واجتياح، يصير خير. أضحك وأنا أطلّع رقمها. ثلاث رنات، نايمة؟ غالبا. يفتح الخط فأقول بامتنان “أيوه يا خالة. كيفك؟” صمت، يرد صوت رجالي “من معي؟” إطراقة طويلة، أو أظن انها طويلة، حفيف المسافة بين السماعتين بدى أبدي، موحش. قلت بشي من الكآبة المبهمة “هذا جوال حصة؟” رد الصوت “لا. غلطان” ثم أقفل الخط .. حسيت بثقل، ثقل بليد، متخثر، لزج. المكان اكتسب صفير صمت أكثر حدّة، كثافة عتمة أكثر قتامة. إستلقيت من جديد، السقف يتضح أكثر في اعتياد العين على الظلام، لكن بلا ملامح، مجرد شي، مادة. حزن غريب، قديم، رث، من مكان لا وجود له، ينبض للحظة مثل أضواء المرافئ التحذيرية، ثم يختفي، يؤكد وجوده ولكنه يؤجل استمرارية حضوره إلى وقت آخر. ببطء، حياد رخيم، ناعم، آمن. نعاس طفيف يعلق في الهدب، يمسح بعطف وحنان ذرات التلكؤ، يشتتها. ثم خفة، تطفو. ثم نوم.

6 replies on “أيام: 28 ربيع ثاني”

This is real shit, and I like it. Rather, I celebrate it. And since you have mentioned Federman, I suggest you read these fellow writers: Ronald Sukenick, Mark Amerika, and Kenneth Patchen. If you haven’t already read their “novels”, I urge you to do so. I really hate to recommend books and stuff, but I do it anyways. Cheers

You absolutely get it.
From the names I recognized Sukenick and Patchen, especially the first. I’m not familiar with Amerika.
It’s a fucking pleasure to find someone here who reads these kinds of “novels”. Cheers

رد

Bellissimo post 🙂 io adoro la francia, ed è vero, voi francesi siete un po' strani, ma anche molto afitcsfnaai come modi e mentalità, ho preso da poco la patente e il mio sogno sarebbe avere o una vecchia CV o una vecchia 500 XDDD, Baci Clo

اترك رداً على ahmedalhokail إلغاء الرد