التصنيفات
ما شذَّ عن التصنيف

الرياض، بعد 12 ليلا

 

IMG_1573

 

بسبب طبيعة عملي، فأنا مضطر لأن أتابع أكثر الأخبار لعانة في العالم.

قبل مدة مثلا، قضيت ساعتين وأنا أتقصى صورة لرجل مقطوع الرأس ممزق الجسد، لأثبت هل هي فعلا صورة حسين ياغي الذي قتل في تفجيرات بيروت.

لا مشكلة، العنف لم يعد نشازا. كما أنني أحب مهنتي، وأجيدها الى حد كبير.

أخرج في الساعة الثانية عشر ليلا. الشوارع هادئة وجميلة، الرياض كريستالية في نقائها ولمعانها الشفيف. البيوت معتمة بهدوء رقيق الى حد ممرض، تبدو حميمية في أمان الاجساد النائمة داخلها. العالم يظهر حينها لطيفا، وجميلا. لا شيء سيء يمكن أن يحدث.

تتصل علي أمي أحيانا وأنا طالع. ربما يجب القول أن أمي امرأة أمّية تقليدية، تظن أن الناس مهما كانوا سيئين، ولا تستثني نفسها، يظلون غير قادرين على تجاوز حد معين من اللباقة والعطف. المهم، بعد كل الحديث الهامشي المسالم، أحيانا وليس دائما؛ تسألني أخيرا عن الكوارث، انفجارات/صواريخ/حروب/قتل عموما، ربما كنوع من التكفير حينما يحدث شيء في ذلك اليوم يجعلها تقتنع أننا محظوظون لأن البراميل المتفجرة لا تسقط علينا ولأننا لا نُـنحر باسم هذا أو ذاك ولأن حياتنا لا تُهدَر بضغطة زر في طيارة لا نعرفها ولا تعرفنا ورغم ذلك ترسل صاروخا علينا. تسألني وهي تظن أن الصحفيين يعرفون كل شيء يحدث في العالم. أخبرها، أحيانا وليس دائما أيضا، وبدون تفاصيل سيئة أكثر من اللازم، ولا تفشل مبالاتها التي تبدو صادقة على الأقل في إثارة اهتمامي كل مرة، وأحيانا امتعاضي، كيف تحافظ على هذا القدر من المبالاة أو الرغبة بادعاء المبالاة على الأقل؟ إنه عصر تجريدي، هذا الذي نعيش فيه، حيث كل شيء سيء يحدث في العالم: يصلك، ولكنه يحدث خارجك. أنت في الطرف الآخر الخارجي من الشاشة، تراقب، ولكن دون أن تتورط. هذه التجريدية تشبه اللامبالاة، ولكنها أدق وأكثر تعقيدا. إنها آلية نستخدمها لنتأقلم مع غرابة وبشاعة وكرتونية ما يحدث، آلية ناجعة ومهمة، لولاها لكنا لا نتوقف عن الغضب والقهر على سخافة وفظاعة ما يصلنا. تكرر أمي الطيبة امتعاضاتها، ثم تختم بالقول أن العالم تعيس، وأنه مخيف، وتُذكّر بالحديث الذي حفظته منذ أن كانت طفلة لأنه يثبت لها أن العالم الذي عاشت فيه كان وسيظل أفضل من عالمنا هذا “يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال يفر من الفتن” وأتخيل وأنا أقطع الشوارع الكريستالية اللطيفة النائمة، ماذا لو أنني بعيد فعلا؟ في مكان بدائي وحشي لا حياة فيه سوى عزلتك اللاملطخة بوحل كل هذا الخراء؟ وأدرك أنني أكثر ضعفا من فعل هذا، ربما لأنني أحب نفسي ومتعي ولذاتي وأحب الناس والمدن والحركة. وأدرك أنني تبعا لذلك سأظل في هذه العزلة التجريدية، وأن ملايين الناس مثلي، وأن هذه الشوارع الكريستالية اللطيفة لو حدث لها ولأناسها شيء فلن يبالي الآخرون بنا، وسيراقبوننا نموت كما نراقب غيرنا يموت. وهنا؛ في الأحيان التي أكون مباليا على غير العادة: تحين لحظة نرفزة حاقدة خاطفة. ولكنها تتلاشى سريعا، لأنني أقف عند المطعم، وأهمُّ شيء يحدث الآن بالنسبة لي هو أنني جائع، وأشتهي ان آكل.


أضف تعليق