التصنيفات
قصص

قناديل البحر

كان يفكر أنه لو لمسها، شيء ما سيحترق في داخله.

الحرارة حارقة في منتصف الصيف، ولكن وجهها في غرفة الاجتماعات المملوءة بالشمس وهواء المكيف يبدو باردا، مثل حبة بَرَد تتمايز مع اللهب المستعر في الخارج.

تنصت بجمود، صغيرةً ويافعة، حتما لم تتجاوز الثانية والعشرين، ربما تخرجت للتو من الجامعة. تبدو غير طموحة، أو غير مبالية، أو هكذا يبدو الشباب دائما، مستهينين بالفرص كما أخذ يفكر وهو يجلس عند رأس الطاولة ويخزها بطرف عينيه.

رئيس التشغيل التنفيذي يشرح له العرض المقدم لهيكلة الشركة المكونة من قرابة 200 موظف.

ستبتُّ المحكمة التجارية في قرار إفلاس الشركة، اليوم، في جلسة أهمل حضورها. ولن تخرج عن ثلاثة إجراءات كلها تصيبه بالضجر. إعادة التنظيم، أو التسوية الوقائية، أو التصفية. وتمنى في داخله أن تكون تصفية تقضي على كل شيء.

ولكن لا أحد ممن يجلس هنا يعرف ذلك.

يتكئ مسترخيا بثقله على ظهر الكرسي. يبتسم بخمول. يطالع باهتمام مفتعل في الأرقام المعروضة. يهز رأسه. يساير. يشرد. ولكنه لا يعلق. وهنالك خيط يكاد يُرى بالعين المجردة يسحب عينيه إلى الفتاة في آخر الصف الثاني من الطاولة.

وفكر مبتسما: “نهاية العالم”.

انتهى العرض، فشكر الجميع وقال إنه سيفكر في الأمر. وحينما خرجوا تباعا وقفت الفتاة، ثم اقتربت منه بعد خروج الجميع، ابتسمت له فابتسم لها.

“صباح الخير خالي، كيفك انشالله بخير”.

خالي؟؟

حدق إليها بصمت، وقد تحولت ابتسامته إلى نظرة استفسار ساخرة. فوضعت الفتاة يدها على صدرها: “أنا هند، بنت اختك حصة. كلمتك أمي قبل فترة اني أتوظف عندك أتدرب وحولتها للاتش آر. هذا ثالث يوم لي هنا ما شفتك الا اليوم”.

تدارك نفسه سريعا، ابتسم ونهض مسلما عليها ومنعها من تقبيل رأسه: “توي أبو 45 سنة، لاحقين على حبة الراس”.

جاملته: “شكلك أصغر والله”.

أبدى حماسه لاكتمال نضجها واستغرابه من سرعة الزمن الذي قادها إليه. كل الجمل الكلشيهية المعتادة. مزحت معه، وشكرته على الوظيفة، ثم خرجت.

كل هذا حدث في أقل من دقيقة.

ظل واقفا في الغرفة المملوءة بالشمس والهواء البارد.

لديه 15 أختا و17 أخا من زوجات والده الأربعة. لقد فقد إمكانية تمييز أبنائهم منذ مدة طويلة. كل يوم يخرج له واحد منهم في زيارة أو مناسبة ما ويحاول تقبيل رأسه. “ما يخلصون عيالكم؟” يقول لأخيه حمود، الذي يرد بطريقته المعتادة: “ورانا حرب مع المسيح الدجال، لازم نكثر النسل”.

هند بنتُ حصة. لا يتذكر أصلا متى كلمته حصة. بل أنه لو سمح لذاكرته بمزيد من الكسل لما تذكر حصة جيدا.

جلس أخيرا. ثم انطلق فجأة في نوبة ضحك كسولة، ولم يتوقف إلا بعد عدة ثواني وقد احمرّ وجهه. “الله يخلف عليك يا سعود”.

ظل جالسا بصمت. ما زالت رائحة الطباعة تنبعث من الأوراق الكثيرة المتناثرة على الطاولة، تختلط برائحة الأجساد أيضا، والأجهزة. بينما الشمس من الجدران الزجاجية، تنتشر ناصعة ونقية.

نهض ووقف لحظة عند باب غرفة الاجتماعات التي تطل على صالة المكاتب المتلاصقة. عشرات من الموظفين يخترشون مثل خلية نحل. لقد اعتاد منذ مدة طويلة أن يرى كل موظف يعرفه وفوقه رقم ما، مجموع راتبه وما يقدمه وما يمكن استخلاصه منه. ولكنه لا يعرف ثلاثة أرباعهم الآن، يمرون بجانبه. “مساء الخير يا ريس” فيبتسم ويهز رأسه بلباقة: “مساء الخير يا كبتن”، ويفكر “منهو ذا الكبتن؟؟”.

أغلب الموظفين يبدون له مثل قنديل البحر، كائن غريب من الرخويات يبدو وكأنه يتموج بلا هدى ولا دليل ولا إثبات إنتاجية محدد. فيتذكر أنه أيضا قنديل بحر في السنوات الأخيرة، لا ينجز عملا محددا ويتجه في كل اتجاه. شركة قناديل بحر متجهة إلى الإفلاس. “يا سلام”.

كل هذا انتهى الآن، ولا جدوى من التفكير فيه.

مشى يقطع المكاتب إلى الخارج، وقد وضع يديه في جيبي ثوبه، يتقمص هيئة من يتمشى دخيلاً في مكان ما. لقد اقترح الرئيسي التنفيذي الإبداعي مبادرة لجميع الموظفين، أن يضعوا اقتباسا مطبوعا على مكاتبهم، يكشف شخصيتهم وموقفهم. الأكثرية تجاوبوا وعلقوها وبروزوها، يقرأها وكأنه يراها لأول مرة. أغلبها اقتباسات متوقعة، إبداعية، ولكن واحدا منها بدا غريبا. “الحياة: لم يُمسِ امرؤٌ في جناحٍ آمِنٍ إلّا أَصبَحَ منها علَى قَوادِمِ خَوفْ”. توقف عنده، لمح مدير الموارد البشرية قريبا منه، فسأله: “من هو ذا؟”.

فهمس بحذر: “هذا عبدالعزيز”.

“من عبدالعزيز؟”.

“كاتب إبداعي”.

“وينه؟”

“فصلناه الأسبوع الماضي”.

ضحك سعود أمام استغراب مدير الإتش آر. ربت على كتفه، وشرح له: “هذي نبوءة يا ناصر، ما هي اقتباس”. ومشى وهو يضحك.

مضى بسيارته على امتداد طريق عثمان بن عفان. بحث عن مطعم يلفت الانتباه من صفّة المطاعم المتراصة. وقف عند مطعم فلافل، وطلب صَبّة بالحمص والبيض، وجلس يأكل على كرسي حديدي غير مريح.

العامل الهندي عنده لزمة يكررها لكل زبون يطلب “صبة سبشل”. يسأله: “همّص بيض؟”. وحينما أجاب أحدهم: “لا بدون حمص”. نهره العامل: “الهمص بدون بيض فلافل عادي، سبشل لازم همص بيض”، فرد الزبون بنزق: “خلاص أجل فلافل عادي، معاملة حكومية ذي مهيب سندوتشة”. ضحك سعود عاليا لدرجة أن الجميع التفتوا نحوه وهو يلوك لقمة كبيرة من الصبة التي ملأت فمه. ولم يفهم أحد لماذا ضحك، ولا حتى هو.

استنشق دفعة من الهواء بعد أن انتهى وشبع. أحس بالدم يسري قويا في عروقه، وبنفحة نشاط تتجدد في جسده. وظل جالسا على الكرسي الحديدي، يحدق إلى الداخل والخارج.

أذّن العصر فطرده العامل همّص بيض.

قاد سيارته خلال شوارع حي الفلاح حتى توقف عند جامع دار العلوم. رائحة الدخون أعادته سنوات إلى صلاة التراويح في مسجد السويدي مع والده، ووجد نفسه بعد الصلاة وقد رفع عقاله إلى هامة رأسه واتكأ على سارية يفكر مبتسما في سنوات طفولته، والناسُ أمامه تفرقوا ما بين متسنن وذاكر للورد، والنوافذُ الطولية الكبيرة ترسم على الفرشة ضوءً هندسيا يُشع ناعما ولطيفا في المكان. لقد قرأ في رواية حوارا لرجل يطلب من ابنه أن يقلب بصره في جميع مرتادي المسجد، ثم أخبره أن هؤلاء كلهم “إخوانك”. ولكنه لم يشعر بأي رابط أخوّة معهم. كلهم أغراب. ورغم أن الذكرى كانت مع والده، إلا أنه تذكر والدته أكثر. ولأول مرة منذ مدة طويلة أحسّ بحنين قوي. ترتفع العاطفة مثل جرعة تتركز قوية وتبلغ أعلى ذروة ممكنة لدرجة أنها تصل رطبة إلى العين، ثم تنخفض وتنطفئ على شكل ابتسامة شاردة لا تكاد ترى، ولو أنك لم تكن تحملق فيه باهتمام لفاتتك تلك اللحظة الخاطفة وهو يجلس متكئا على السارية يتذكر. وحينما انتبه في لحظة ما لاحظ أنه لم يبق في المسجد إلا شخص واحد، وأن شيئا ما في المكان صار كئيبا بخروج من فيه. فخرج.

عند إشارة كبري شارع الملك عبدالله مع شارع عثمان، هنالك لوحة صغيرة عليها إعلان من تصميم شركته لصالح إحدى وكالات السيارات التي ما زالت مهووسة باستهداف النساء المترددات. صورتان، الأولى لمرآة السيارة الأمامية التي تُبرز المركبة الخلفية حيث تجلس فيها امرأة متحجبة تتدلى من حجابها المرتخي خصلة شعر طويلة. الصورة الثانية لذات المرآة الأمامية التي تُبرز المرتبة الخلفية، ولكنها الآن فارغة، وفي الأسفل كُتب: مكانك قدام، مكانك معنا.

ضحك بملل وهو يهز رأسه.

لقد بدأت القصة بموقع إلكتروني متخصص في خدمات السياحة داخليا. توسع ليشمل شبكة مواقع مختلفة، توسعت لتشمل خدمات إعلامية، وداتا، وكتابة محتوى، وتسويق، وظلت تتوسع حتى كثرت قناديل البحر في شركته التي بدأت من مكتب في حي المصيف فوق مطعم شاورما إلى أن وصلت حدا لم يعد يعرف ثلاثة أرباع من يعملون لديه.  

لم يطل التحديق إلى الإعلان، نقل بصره إلى قصور العويضة على امتداد حاجبه الأيمن، ثم إلى السماء المرقعة بغيوم صيفية، ثم إلى فراغ في الطريق. حتى فتحت الإشارة فمشى مع الركب.

كانت والدته تسأله: “وش تبيع أنت الحين؟”

فيرد: “أبيع وهم”.

“أقول كل تبن بس. وش تبيعون؟”

فيرد متكئا على مركى جلسة المغرب: “أسلوب حياة”.

“هه!”.

“أفكار، معلومات، مظاهر، طريقة تفكير”.

فتختصر والدته النقاش: “المهم فيها فلوس وأمورك زينة؟”.

فيرد رافعا صوته: “فيها أقل من اللي أبي. مشكلتي ان نفسي طماعة يا ام سالم”.

“طماعة وش تبي؟”.

“تبي أكثر”.

“أكثر في وش؟”.

“أكثر في كلّش”.

 “أحد ماسكك”.

“نفسي ماسكتني”.

“نفسك الطماعة اللي تبي زود هي اللي ماسكتك؟! الله من الرخامة!”.

“الله أقوى”.

كان والده يملك ثروة جيدة. أموال، وحلال، وعدة مزارع، تفرقت بين أربع زوجات و15 أختا و17 أخا. ورغم ذلك وصله منها أكثر من مليون ريال.

أما والدته فكانت تملك القلق. خوف من الإفلاس طوال حياتها، خوف من الأمراض المستعصية والمعدية والوسواس والعين والسحر والسرطان والإيدز والإثيوبيين والأمريكان والأقزام والشيخوخة.

كانت تقول لهم: “إذا تَحَرْوَلْت اذبحوني”. وحينما بلغت من العمر عتيا وغطست أصبعها في أولى مراحل “الحرولة”، طغت كآبتها المتذمرة من كل شيء، فكان سعود يقترح عليها كل مرة طريقة جديدة للانتحار سويا. “نرقى فوق برج المملكة، ثم نطمر مثل الحمام”. “نشتري أسد، نربيه، ألين يصير يحبنا، ثم نشوف إذا بياكلنا أو نخليه ياكل الناس اللي ما نحبهم، win win”. “نطلع للبر في وقت المطر، ونلاحق الصواعق لين تضربنا وحدة”. “ناكل بروستد من محل تسالي في البطحاء”. “نشجع الأهلي”.

كانت شديدة النحول، ليس عندها لذة واضحة في الحياة، لا تحب الطعام ولا تحرص على الملبس ولا تهتم بما يجري في العالم، ومع ذلك عُمرت قرابة 90 سنة. يخبرها سعود: “سرقتِ عمر ناس واجد وانت ما تستاهلين”. فترد: “أحسن، وكودي أسرق من عمرك بعد”.

حينما توفيت قبل عامين لم يجد وقتا كافيا لأن يكوّن ردة فعل واضحة، كان مشغولا بالترتيبات اللازمة والازدحام الذي سببه وفاة المرأة التي عُمرت قرابة قرن من الزمن، الاتصالات الغريبة التي ترده من أشخاص لم يسمع بهم من قبل: “الله يرحمها والله انها فقيدة”، فيرد: “إي والله”، وهو يفكر في نفسه: “عجوز ما تعرفها وشلون صارت فقيدة؟ من أنت؟ من هالناس اللي تتصل؟” وبعد أسبوعين هجمت عليه في لحظة ما فكرة وفاتها دون سبب واضح، كان الوقت عصرا في مكتبه والشمس الصفراء المحمرة شتاءً تملؤ المكان، وخطرت العجوز النحيلة في باله فهجمت عليه كدرةٌ استدارت برأسه قليلا، ووجد نفسه مسمرا في كرسيه عدة دقائق، نافرَ الحركة، يفكر في الحياة والموت وكل طرق الانتحار التي كان يقترحها عليها ولم يتسن لهما تنفيذها. حتى انقشعت مثل السحابة من رأسه، فجأة كما جاءته فجأة.

اخترق الرياض جنوبا ثم غربا. السيارات المُصْطكَّة على امتداد طريق الملك فهد، انعكاس الضوء الحاد في بنايات الزجاج العملاقة على التخصصي، زحفُ الخارجين من دواماتهم بأوجه منهكة ومستنزفة عند البوابة الرقمية.

ترك الراديو يشتغل على محطة عشوائية. “هذي آخرة عمري، أسمع رادو”، ولكنه لم يجد رغبة في استخدام جواله ليسمع من قائمة البودكاستات التي يحبها. هنالك برنامج لتفسير الأحلام. امرأة دعست على صارور في حلمها ففسره الشيخ بأنه تمهيد لخير سيصادفها. وأخرى حلمت بأنها تضاجع قردا على فراش الزوجية، ما جعل المفسر يغضب منها. “حلم يا شيخ وش أسوي”، ولكنه يرد مصدوما: “ولو! وش ذا الأحلام. أعوذ بالله”.

طعم الفلافل ما زال عالقا في فمه. توقف عند بقالة ليشتري علكا. تجول بين الصفوف، وكأنه يتسوق لبيته. وقف عند قسم أدوات التنظيف والقضاء على الحشرات والقوارض، وتذكر فارس، فضحك. كان قد تلقى في ظهيرة ما قبل عشر سنوات تقريبا اتصالا من زوجته، وحينما رد استقبلته بصرخة جعلته يظن أن مجرما اقتحم عليها البيت. ولكنها أخبرته أنها رأت فأرا. وطالبته بالعودة فورا للقبض عليه.

“فار هذا. وشلون أمسكه؟”.

“مدري. دبّر عمرك”.

عاد إلى المنزل، حاملا معه عشرين كرتونا لاصقا مخصصا للفئران، ووزعها في كل شبر من البيت. وجلسا ينتظران. كانا يحاولان الإنجاب وقتها دون فائدة، فاقترح أن يتبنيا الفار. “ما راح يكلفنا الموضوع إلا حرف سين”. ولكن زوجته المصابة بفوبيا الحشرات لم تجد النكتة مضحكة أو مشتتة للقرف الذي تحس به. لم يقبضا على الفار، وظل يشير دائما إلى وجوده. يسألها فور دخوله عن فارس، هل أكل؟ هل أنهى واجباته المدرسية؟ هل يجب أن يقلقا من ميله إلى العزلة؟

حينما طلبت الطلاق منه بعد عامين، أجلسته أمامها، وشرحت له أنها تحبه، ولكنه لا يصلح للزواج. “أنا مدري ليش أنت متزوج أصلا؟ أنت تحب اللي برا أكثر مما تحب بيتك، تدور أي فرصة عشان ما ترجع لبيتك. من نعمة الله علينا اننا ما جبنا عيال”. سمعها، حتى انتهت، مدركا أنها ربما تكون على حق. إنها أذكى منه، أصغر منه بخمس سنوات، معها دكتوراة في علم النفس، وترغب بإنجاب أطفال وتكوين عائلة أكثر من أي شيء آخر. ولكنه كسر الصمت بعد دقيقة وقال: “إذا ما تبين تقعدين عشاني، على الأقل اقعدي عشان فارس”، ضحكت، وهزت رأسها بورطةِ من اعتاد على انعدام الجدية هذه، ثم بكت. كانا يجلسان عند طاولة الطعام، أمام الباب الزجاجي الضخم الذي يطل على حديقة البيت. البيت الصغير الحميمي في حي النرجس المهيأ لعائلة صغيرة. وفكر لو أنه حاول إقناعها فستقتنع، ولكنه لم يفعل، وسكت.

يلوك العلك بصوت منغّم، على طريق الدائري الشمالي. الطريق لا يتحرك إلا بمقدار خطوة سلحفاة.

في الأفق أمامه هنالك غيمة معلقة في السماء، كأنها نُدفةُ ثلج صغيرة، تبدو باردة وناعمة في الضوء الساطع المغبِّش. تندات السيارات تومض في السراب على شكل شرارة حريق لا يندلع، والأوجه الغامضة داخل الزجاج عديمة الملامح والتعابير. لم يقابل أحدا يعرفه في الزحام من قبل. هل هؤلاء كلهم حقيقيون؟ من هم؟ وفكر في احتمالية أن يكون كل شيء وهما، خدعة تقنية، وأنه ليس إلا مجرد شريحة إلكترونية في سيرفر ضخم. وابتسم باستمتاع.

هنالك لوحة ضخمة، عليها صورة شباب متقدين بالحماس، يركضون إلى جهة ما. وقد كُتب بخط عريض تحت شعار الجهة المعلِنة: “نأخذ بيدك إلى أحلامك”.

ضحك بأعلى صوته.

كان يعمل عند مدير كلما قال له: “ودي أسوي كذا يا أبو صالح”، رد عليه: “محد يبروز أحلامه إلا الشعراء. يا تعطيني شي أقدر أشوفه أو أمسكه، والا اشتر لك شمعة وخلك شاعر”. أبو صالح كلاسيكي يربط كتابة الشعر بضوءِ شمعةٍ خافت.

كان يحب التراث والأدب. علّق على باب مكتبه ورقة كُتب عليها مقولة للحجاج الثقفي: “إنّي أيقَظتُ رأْيي، وأنَمْتُ هَوايْ.. أخلِطُ عجَلةً بتأنٍّ، وصفْوًا بكَدَر، وشدَّةً بلِين، وتنبِيهًا بازدِرَاء، وعَطاءً بحِرمَان”.

دخل عليه سعود مرة، فرآه مغتما. سأله عن حاله فقال أبو صالح إنه عاد للتو من الطبيب. “أخذنا الولد له لأنه رافض يروح للمدرسة. قال لنا الطبيب إنه يعاني من اضطراب قلق الانفصال”، ضحك أبو صالح بملل كسولٍ يرجُّ كرشته الضخمة رجا خفيفا يعزز شخصيته المسترخية الشبعانة، فجاراه سعود في الضحك. “أبوي كان يقول لي: محد له بيت يا محمد. بيتك الأول كان بطن أمك، بيتك الأول كان حرفيا داخل جسم إنسان آخر. حياتنا كلها انفصال. أحيانا أحس اننا نحب عيالنا أكثر من اللازم. يطلع الولد من ظهرك ثم يطلع من بطن أمه، وتظن انه لك، بينما هو تبَع ذا العالَم”، ثم حدق إلى سعود “توّك عزوبي، بتفهم بعدين”.

“يبيلنا نشتري لك شمعة يبو صالح. صرت شاعر”.

ضحك أبو صالح بكسل أقل تفاعلا. وحل صمت اعتاد سعود ألا يبادر بكسره. “تدري اننا في نهاية العالم الحين؟ العالم اللي نعرفه ينتهي الآن”.

“أوف. محد قالي”.

“تدري كم مرة ينتهي العالم؟”.

“كم؟”.

“على حسب. كل عشر سنين، كل عشرين سنة، كل خمس سنين، كل سنة، كل شهر، كل يوم. على حسب. العالم دائما ينتهي. كل يوم هو يوم محتمل لنهاية العالم. تقوم بكرة، وتلقى قدامك عالم جديد. لذا وش معنى انك تملك شي؟ ما له أي معنى. أنت ما تملك شي، ولا حتى نفسك. بكرة يقوم العالم، وأنت ما تقوم، وما يبقى منك إلا الجسم اللي طلع من ظهر أبوك وبطن أمك. حتى جسمك مهوب لك، جيت فيه من غيرك وبتخليه لغيرك. ثم؟ وانْقَـلَبَ الحَبِيبَانِ يقتَسِمُ أَحَدُهما صَاحَبَهُ: حبيبُهُ منْ وَلدِهِ يَقتسِمُ حبيبَهُ منْ مَالِهْ“.

في الغد، دخل أبو صالح مكتبه، ووجد شمعة اشتراها سعود ووضعها على مكتبه. وتخيل حينها أبا صالح يضحك بنفس كسله الذي يرج كرشته رجة خفيفة.

الإشارة التي يقف عندها لا تتحرك. حتما هنالك حادث، وفكر في أخلاقية نفسه التي ترجو أن يكون حادثا شنيعا يبرر وقوفه الطويل، عوضا عن خدش بسيط بلا ضحايا يجعل وقوفه هذا عبثيا. الراديو ما زال شغّالا، ولكنه الآن برنامج اجتماعي يستضيف فيه المذيعُ مختصا يحاول شرح معنى التكافل الاجتماعي. يقاطعه المذيع، فيقاطعه المختص، وتشتبك أصواتهما. ثم يقول الضيف: “أصلا الناس تعاني من الحمق”، فيصمت المذيع، مترددا، ثم يصرح: “هذي قوية يا دكتور”. ولكن الدكتور المختص يؤكد: “حقيقة! أنا أعرف الناس! أنا مختصّ!”. ويحاول شرح فكرته.

التفت عن يمينه. هنالك عائلة في صالون تاهو، يبدون فعلا مثل شرائح إلكترونية مكررة غير معتاد لخروج العائلة. “glitch”. التفت عن يساره، ورأى فتاة لوحدها، تجلس بنظرات شاردة. حجابها مرتخٍ يكشف عن شعرها، ينحسر إلى كتفيها فترفعه. وتخيّل ملمس شعرها، والتفافة عنقها، وقبضة يدها على الدركسون. لمس الدركسون بيده، وكـأنه يلمس ما تلمسه، ويحس بما تحس به. لمحته يحدق إليها، ولكنه لم يبعد نظراته، بل ابتسم. رفعت حاجبيها نزقةً وأشاحت عنه، بإيحاءِ من اعتاد على نظرات الآخرين المترصدة.

تذكر فتاة يعرفها في دبي. كان قد قابلها في بار فندق مطل على البحر. المكان معتم وما زال في شعره وجلده أثر من رمل الشاطئ وشيء من رطوبة الماء الناعمة. في المكان رائحة عطور وشراب وهرمونات. لم تصدر منه أية حركة، يجلس خاملا ومتقوقعا على شعوره الغامر بالضمور، في مرحلة كانت ستمثل انطلاق هويته كقنديل بحر كبير. هي التي اقتربت منه، سألته إن كان يريد خويّة، فقال “ليش لا”، واشترى لها كأسا.

صعدا إلى غرفته بعد ساعة تقريبا. في رأسه خفة وفي جسده ثقلٌ رخو.

سألته إن كان معه أحد في سفريته هذه. فرد مبتسما وقد ألقى بنفسه على الكنب: “لحالي”.

“عمل؟”

“لا”.

“شو طيب؟”.

فهز كتفيه: “فاضي وقلت أجي”.

“شو عملت هاليومين؟”.

“ولاشي”.

ضحكت: “كيف ولاشي؟”.

فضحك: “مدري”.

خلعت حذاءها، ورأى أظافرَ أصابعها المصقولة بلون أحمر تتمايز احتفاليةً مع بياض السيراميك المحايد اللون تحت باطن قدميها، وامتدادَ الساقين العاجيتين إلى الفخذين المتواريين بإيحاء الأماكن الغامضة وراء تنورة سوداء أنيقة.

لسانها شديد الحمرة، قطعة لحم مشبعة بالدم. منحوتا يمتد عريضا وممتلئا ويلتقي طرفاه في التفافة مسبوكة تلمع باللعاب. يتألق داخل فمها، وسط وجه محبب وعينين جميلتين. لم تبد عاهرة بتاتا، بدت امرأة أنيقة ولكن في نفسها خلاعة لم تستطع كبحها، وأراد أن يسألها عن أحلامها وعن منزلها وعن تفاصيل يومها وعن لونها المفضل وأفلامها المفضلة وأغانيها المفضلة، عن الأشياء التي تحبها. طالعها مبتسما، وهي تتحرك عند قدميه. سألته ماذا يشتهي، ولكن في رأسه خفة وفي جسده ثقل رخو. “اللي تشوفينه”.

كان كلما ذهب إلى دبي اتصل بها وجلس معها عدة ليال تتفرغ له كليا، ولكن هاتفها في المرات الأخيرة مغلق، وظل مغلقا حتى رجع. وهكذا اختفت. كانت تقول له إن لديها أسرة في مدينتها التي ولدت فيها، أم وأب وإخوة وأخوات، يظنون أنها تدرس ولا يعرفون شيئا عما تفعله هنا، ولا تريد العودة إليهم. سألها ماذا تريد فردت أن تسافر. إلى أين؟ إلى كل مكان ممكن. إلى متى؟ إلى أن تعجز عن السفر. وبدت في تلك المدينة المصنوعة من حقائب المسافرين أنها أكثر شخص مغترب، بل أكثر غربة منه وهو الذي يأتي إليها دائما بلا شنطة.

وصلت به الهجولة إلى عِرْقة. مقاهي، مطاعم، أسواق، بقالات، خياطين، شركات، محلات عقار. وأيضا محل خرازة كُتب على لوحته “إصلاح نعال ونعال جديدة”. وقف أمامه مستغربا، من الذي سيصلح نعلته في هذا الزمن؟ نزل، ودخل بفضول. المحل صغير لدرجة أنك ستضطر للخروج إذا طرأت عليك فكرة جديدة لم تدخل بها. كله رفوف مملوءة بالنعال الجديدة والقديمة. رأى عاملا هنديا مسنا وراء طاولة، يبدو شكله وكأن أحدا لم يخبره بمجيء القرن الواحد والعشرين، منكبٌّ على نعلة في يده. يحدقان إلى بعضهما بصمت، وكأن كلاهما يدرك أنهما اثنان لا يصح ان يتقاطعا مع بعضهما، وأن الزمن سيتهتّك في حال حوارهما. ثم استعان أخيرا بأقرب تصريفة طرأت عليه: “فيه نعال جديدة؟”، فأشار العامل بحاجبيه إلى ما وراءه. اشترى نعلة جديدة، وخرج. رأى شابا يقف خارج المحل، اقترب منه. “تبي تشوف القرن العشرين؟”، بدا الشاب مذعورا، وكأنه أراد أن يكفّ شر هذا الغريب فأخذ أقرب كلمة إلى لسانه: “مدري”، فأشار سعود برأسه إلى الخلف: “ادخل ذا المحل”، وضحك، ولكن الشاب اكتفى بابتسامة ونظرة مسالمة مستخرجة من كتالوج طريقة التعامل مع المختلين في الشوارع. فتركه سعود مهمِلا رغبته في تثقيفه عن لذة السواليف مع الأغراب وعدم الحاجة إلى التوجس منهم إلى هذه الدرجة، وعاد إلى سيارته.

الشمس تنحدر بطيئة عن يمينه، فاقعة الصفرة والحمرة في سماء صافية تبدو لا نهاية لها، ومن الأشياء تتشكل قوالبُ فيءٍ ظلالي يلوّن الإسفلت والتراب، ومن السيارات تبرز أوجه مسافرين وعابري سبيل معلقين في صناديق من الحديد، مختلفة التعابير والحالات، تجدد إحساس العالم السيرفريِّ الضخم الذي يضم شرائح إلكترونية تتوهم أنها حقيقة فيزيائية.

دعس قطة أثناء دخوله إحدى الحارات. خَطَمَت فجأة أمام سيارته ولم يجد بدا من دهسها. نزل، وتأمل جثتها الممزقة، ثم تفاجأ بطفلة تركض نحوه وهي تصرخ، ويلحقها رجل، وقد خرجا من البيت وراءهما. يبدو أن هذه قطتها. تصرخ وتبكي، والرجل متورط بحالتها الهستيرية، يحاول تهدئتها. ثم التفت إليه: “خبل أنت الله يلعنك؟! شف البنت منهبلة”.

“يخوي ما شفتها، المعذرة”.

تصرخ البنت “سوزي سوزي”، وفهم أن هذا هو اسم القطة التي تسبح في دمائها وأشلائها عند قدميه، وعلى ملامح وجهها تكشيرةُ رعب طرأت قبيل الخاتمة الشنيعة.

“أنت تمشي في حارة، المفترض تنتبه!”، يحتضن ابنته، ويحاول أن يغطي عينيها. “نجيب لك وحدة ثانية”، ولكن البنت تصرخ: “أبي سوزي”.

لم يجد بدا من الاعتراض. “من متى القطو صار مهم كذا. تراه قطو”.

“هذا قطو بيت. يختلف”.

“تبيني أسأل القطو قبل ما أدعسه أنت قطو بيت والا قطو شارع؟”.

ولكن الرجل لم يجد فيما يبدو داعيا للنقاش، فسحب البنت ومشى. هتف سعود مودعا: “المرة الثانية بدعس آدمي. المعذرة والسموحة”.

شمس الصيف عنيدة، ما زالت معلقة في حلق الأفق. بدت له مثل عجوز انتهت زيارتها لجارتها ولكنها تقف عند بابها طويلا. “متى يخلص ذا العصر؟”، وبحث عن وقت الأذان، ليكتشف أنه ما زال يبعد قرابة نصف ساعة.

توقف عند مقهى قيّمه أكثر من 1500 شخص على خرائط جوجل، وأعطوه أربع نجمات ونصف. لا يدخل مكانا إلا وقد راجع تقييمه في جوجل، وقرأ بعض المراجعات. يطلب ما ينصحون به، ولا يكاد يحيد عنها.

المقهى مزدحم ولكن هادئ، يبدو مخصصا للعمل. هنالك طاولة طولية مثل طاولات البار عند الجدار الزجاجي، تطل على الشارع. طلب الـV60، وجلس. جميع الجالسين على هذه الطاولة يعملون على كمبيوتراتهم، باستثنائه. ولكنه يريد مرأًى يكشف الشارع. ضحك بينه وبين نفسه “من زين ذا الشارع”.

بجانبه شاب يبدو مستغرقا في عمله. أرجع رأسه وكأنه يطالع السقف ويتأمل تفاصيل الديكور، ورأى ما يعمل عليه. وحينما خلع الشاب سماعته الكبيرة عن أذنيه، تشجع واقترب بجسده قليلا: “فيه أداة رهيبة الحين. أوتوباد. انتقرايتد مع البريمير وتحرر لك الفيديوهات بالذكاء الاصطناعي”.

انتبه الشاب، بذات نظرة الذعر التي كانت عند شاب النعال الذي كان ملتزما بتعليمات كتالوج طريقة التعامل مع المختلين في الشوارع. ولكن هذا الشاب بدا أنه لم يقرأ الكتالوج، ولذا ابتسم، ورد: “أعرفها. بس ما جربتها”، ثم تشجع وسأل باستغراب: “أنت محرر؟”.

ضحك: “لا، انا أبيع اللي تحررونه. لكني أحب المبدعين”.

“ليش ما تصير واحد منهم دامك تحبهم؟”.

“ما أعرف. أعرف أبيع أكثر”.

“أنا ما أعرف أبيع. هذي مشكلتي”.

“البيع سهل، يبيلك بس تعرف الناس”.

“وهذي سهلة يعني!”.

“سهلة. إذا عرفت واحد كنك عرفت ألف. أغلب الناس يتشابهون. إذا عرفت عشرين صنف بتصير عرفت الناس كلهم”.

ابتسم الشاب مجاملا. ثم عاد إلى الموضوع باحترافية: “أغلب اللي أحرره وثائقيات قصيرة، ولذا أحب للحين أحرر بالطريقة التقليدية. إلى الحين الذكاء الاصطناعي فيه مشاكل”.

“أنا جربته، ولا أدري ليش الناس خايفة منه”.

بدا الشاب مترددا أمام منحى هذا الاستطراد الجديد عليه في جلساته الاعتيادية في المقاهي. يحدق إليه سعود، ويفكر مستمتعا بينه وبين نفسه أن ارتباكه يثبت أنه ليس شريحة إلكترونية، أو على الأقل شريحة متطورة للغاية. هز الشاب كتفيه أخيرا وقال: “لازم تفكر في هالشغلة على انها إبداع، ما هو شغل. هذا اللي بيفرقك عن كثيرين”.

ابتسم سعود، وهز رأسه. كان قد زار معرض الكتاب قبل أشهر، وتفاجأ بندوة لزميل عمل معه سابقا، قبل سنوات بدت دهرا. سمعه يتكلم عن الأدب، والكتّاب الذين يحبهم، والروايات التي ألّفها. بدا مهذبا ومفوّها، وهو ما جعله يضحك. وحينما لمحه صاحبه بين الجالسين، ابتسم وكأنه قُبض عليه.

وقفا فيما بعد خارج المعرض، وأخبره سعود أن الحياة غيرته، وأنه صار هادئا وحميمًا.

“أما أنت ما تغيرت. مثل ما أنت”.

“على الأقل أنا الحين عندي شركتي”.

“هاه، صرت سعيد الحين يا سعود؟”. ضحك بملل، ولم يرد. كان يتكئ على الجدار، فيما يدخن صاحبه. “قايل لك، بس أنت ما تسمع الكلام”.

الناس تجيء وتروح بعيدا عنهما. السيارات تُسمع أصوات ازدحامها وكأنها بجانبهما.

“تدري وش أكثر فيلم يعلق في بال الناس؟”. هز سعود كتفيه مستفسرا. “هو الفيلم اللي فيه شخصيتين رئيسيتين أو أكثر، وكل وحدة منها تظن انها هي البطل”.

“طيب؟”.

“ولا شي. أنا بس أعلمك ان هذي هي عقدة الحياة. عقدة السياسة والفكر والمجتمع والأسرة والنفس والإبداع والغاية وكل شي تقريبا. كل واحد يظن انه هو البطل، وكل واحد يبي مميزات وخواص البطل، وكل واحد يتوقع انه يطلع من كادر النهاية مثل طلعة البطل”.

بابتسامة ساخرة: “أنت بطل يا أحمد؟”.

“تستهبل؟ أنا الكاتب والمخرج!” وضحكا.

يبدوان مثل نقطتين هامشيتين خربشهما أحد ما على جانب المبنى الكبير، الذي رُكّب مثل الأثاث خلال أسابيع، كأنه مكعب أبيض عملاق. يحدقان إلى بعضهما، بصمت، ولكن بترقب أيضا، في تلك الناحية المنزوية المعتمة.

سأل بنبرة ذات معنى تواطئي شديد الخصوصية: “وش تدوّر يا سعود؟”.

هز كتفيه: “مدري”.

وضع يده على كتف سعود، واستدار به ناحية الناس المتواترين عند البوابة البعيدة. “وش تشوف؟”. ولكنه التفت إليه التفاتة تعني: “ما راح أجاريك، العب لحالك”. فأكمل: “أنا أشوف أخواني وأخواتي، أشوف أخوالي، أشوف عمّاني، أشوف أبوي وأمي، أشوف أخوياي. أشوف ناس مثل كل اللي عرفتهم. كل سوالفهم أعرفها، وكل مشاكلهم وخرابيطهم أعرفها. ما فيه جديد يا سعود. هذي هي الحياة. ما فيه زود. هذي هي”.

“نموت يعني؟”.

“مدري عنك. براحتك. أنا ما عمري خفت من الموت ولا فكرت فيه، متى ما جاء يجي، وإذا بغيته بلقاه. مدري وشلون تفكرون فيه أنتم”.

بنظرة استفسار تكشف التهديد الذي تتعرض له سخريته المقاومة: “من حنا؟”.

“أنتم!”.

“من؟!”.

“الناس اللي تقوم كل يوم وتقول: وين حقي؟ ليش ما جاني؟ من خذه مني؟ وتروح تطرد وراه، كل يوم. أنتم!”. وضحك. “أعرفكم، وما ظنّتي ان الموت أكبر ما تخافونه. أكبر ما تخافونه هو ان الواحد منكم يقوم في يوم، ولا يقول: وين حقي؟ ولا عاد يهمه، ولا عاد يبيه، ولا عاد يطرد وراه. وش بتسوي وقتها يا سعود؟ وش بتصير حياتك؟”.

بدا الموقف غريبا، إلى حد القلق. ما زال يضع يده على كتفه، ويحدق إليه. بدا عدائيا، ولكن بحميمية. مزيج غريب من التعدّي والاهتمام. افتعل سعود ابتسامة: “وصرتَ سفلة بعد”. ضحكا، وأنزل أحمد يده من على كتفه، وأبقى على ابتسامة واسعة. “لأني أحبكم”، ثم أردف ساخرا: “كل الكتّاب يحبون شخصياتهم”.

ما زال يجلس عند طاولة البار في المقهى، أمام الجدار الزجاجي المطل على الشارع. عاد الشاب إلى كمبيوتره وسماعته الكبيرة التي تؤطّر وجهه. يسترق سعود النظر إليه، وإلى من حوله. ولكنه يلقي بصره إلى الشارع، حيث الصور رتيبةٌ إلى حد التكرار: كادر المعالم الثابتة، وداخلها متحركات متشابهة، سياراتٌ وأوادم وسحب. وفكر أن المهنة التي يمتهنها هو وزملاؤه صعبة للغاية، أن يجعلوا هذا العالم الرتيب مثيرا للاهتمام، يمكن بروزته.

جاءته رسالة من رئيس المالية التنفيذي في شركته، وقد أرفق حكم المحكمة الذي صدر اليوم، والقاضي بتسوية وقائية تتطلب تعيين أمين إفلاس لمراقبة سير الإجراءات وإعداد خطة تسوية، وكتب له استفسارا بدا مذعورا عن الخطوة التالية.

ضحك، وأغلق جواله. أعاد بصره إلى الشارع وراء الجدار الزجاجي، حيث كادر المعالم الثابتة وفي وسطها المتحركات المتشابهة. بينما في الداخل أصوات الكيبورد التي تنغّم الصمت، ورائحة القهوة التي تختلط برائحة المخبوزات.

“ناخذ جيب الوالد القديم، ونروح لمطل نهاية العالم، وندعس 200 كلم ألين نطمر بالسيارة من المطل إلى شعيب الحيسية”.

“نكشت عند ديرتكم القديمة اللي أشغلتينا بها، ألين تمسّينا الذيابة والثعابين وتاخذ نصيبها منا”.

“نبني لنا غرفتين في جنة كلها طلح وجبال، ونجلس هناك نحتري الموت، أنا وأنت بس، يجي متى ما جاء”.

3 replies on “قناديل البحر”

تلذذت في البداية لما حدث لسعود بالذات وكأنما كان رد اعتبار لكل مرة استقلت فيها لهذا السبب، ولو كان مجرد محض خيال. شكرًا لك

أضف تعليق